لقد سنحت لي الفرصة قبل بضعة أعوام أن أشارك في مؤتمر لقادة الكنائس العربية في الشرق الأوسط. وتطرقت بعض جلسات المؤتمر إلى موضوع إرسالية الكنيسة الإنجيلية الفلسطينية، حيث أشار بعض الإخوة إلى قلة قبول العمل الإرسالي الإنجيلي في فلسطين، خصوصًا إذا ما قورن بدولٍ عربيةٍ أخرى. هذا أدى إلى نقاشٍ مطوّلٍ بين المشاركين حول العوامل المسببة لذلك.
وقام أحد الإخوة خلال النقاش بطرح موضوع الصهيونية المسيحية كأحد العوامل التي تؤثر على الكنيسة الإنجيلية في فلسطين. فالشعب الفلسطيني يعاني من ظلمٍ اجتماعيٍ وسياسيٍ على يد سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عن التحديات الداخلية. وفي ذات الوقت، فإن الكنيسة لا تتطرّق بشكل كافٍ إلى مثل هذه القضايا المتعلقة بظروف القمع والظلم الاجتماعي والسياسي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني. وفي إحدى ورشات العمل، قمتُ باقتراح بضعَ أفكارٍ عملية تُمَكِّن الكنيسة من الاهتمام بشكل أكبر بقضايا العدالة وحقوق الإنسان في فلسطين.
إلا أنه، وللأسف، لم تكن ردة فعل كل الحاضرين إيجابية، وأشار بعض الإخوة بأنني أتكلم من منطلق عاطفي وليس من منطلق كتابي. فقمت عندها بقراءة بضعَ آياتٍ من أحد المزامير المفضلة لدي؛ المزمور 82. وبينما أخذت بالقراءة، استهجن أحد الإخوة قائلاً: “لكن هذا العهد القديم!”. في تلك اللحظة، أصابني ذهولٌ شديدٌ بأن أحد الإخوة من الكنيسة الإنجيلية يرفض الاستماع إلى العهد القديم! من المؤكد أن هذا الموقف لا يمثل كافة الخدام الانجيليين أو الموقف الرسمي للكنيسة الانجيلية في الأراضي المقدسة فيما يتعلق بالعهد القديم أو قضايا العدالة والحقّ. لكن في الوقت ذاته من المهم التفاعل مع هذه القضايا من وجهة نظر كتابية.
هذه المقالة تنطلق من الإيمان بأن “كُلّ الكِتاب هو موحًى بهِ مِنَ اللهِ” (2 تيموثاوُس 3: 16)، وأن “كُلَّ ما سبَقَ فكُتِبَ كُتِبَ لأجلِ تعليمِنا” (رومية 15: 4). بناءً على هذا الإيمان وانطلاقًا منه، تأخذ هذه المقالة النص المقدس في المزمور 82 بجديةٍ تامةٍ، وتسعى إلى فهمٍ معمقٍ له، بعيدًا عن القراءة السطحية. كما وتسعى المقالة إلى الاستماع لما يقوله الروح القدس للكنيسة في الأراضي المقدسة اليوم من خلال هذا المزمور – بقلبٍ خاشعٍ ومتضعٍ أمام الله كلي القداسة.
المزمور 82
1اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ. فِي وَسْطِ الآلِهَةِ يَقْضِي: 2«حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْرًا وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ الأَشْرَارِ؟ سِلاَهْ. 3اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ. 4نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا.
5«لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فِي الظُّلْمَةِ يَتَمَشَّوْنَ. تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأَرْضِ. 6أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ. 7لكِنْ مِثْلَ النَّاسِ تَمُوتُونَ وَكَأَحَدِ الرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ». 8قُمْ يَا اَللهُ. دِنِ الأَرْضَ، لأَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَلِكُ كُلَّ الأُمَمِ.
المشهد الذي يصوِّره المزمور 82
يصف المزمور 82، بكلماته العبرية التسع والخمسين وأعداده الثمانية، مشهدًا رؤيويًا نبويًا[1] يقوم فيه الله على عرش قضائه، في مجمعه، ليقضي وسط “الآلهة” (العدد 1). هذا المشهد هو بمثابة محكمة: القاضي القائم على العرش هو الله، والمتهمون هم “الآلهة”. يسرد لنا كاتب المزمور ما يدور في جلسة المحكمة الإلهية. فيبدأ الله، القاضي العادل، بإلقاء التُهمة الموجهة ضد الآلهة، ألا وهي “القضاء بالجور ورفع وجوه الأشرار” – أي القضاء بالظلم والانحياز للأشرار (العدد 2). ثم يمضي الله ليُذَكِّر الآلهة بمهمتهم أو إرساليتهم التي كان قد أوكلهم بها، ألا وهي العمل من أجل العدالة ونُصرة المظلوم (الأعداد 3-4). بعد ذلك يُوضح الله الأسباب التي أدت إلى فشل الآلهة بأداء مهمتهم، ونتيجة هذا الفشل (العدد 5). ثم يُذِّكر الله الآلهة بهويتهم كبني العلي (العدد 6)، وهذا يأتي مُكملاً للإرسالية المعلنة في الأعداد 3-4. تنتهي المحكمة بإصدار الله لحُكمَه على الآلهة (العدد 7)، بشكلٍ يتماشى مع التهمة الموجهة إليهم في العدد الثاني. أما خاتمة المزمور فتأتي في العدد الثامن بشكل يوازي الجملة الافتتاحية في العدد الأول، فيدعو كاتب المزمور الله أن يستمر في قضائه وحُكمه، ليس على الآلهة فحسب، بل على كل شعوب الأرض أيضًا. من اللافت للانتباه أن أفكار المزمور مرتبة بنمط تصالبي (ما يعرف أيضاً بالمقابلة العكسية)، وهو من الأنماط الأدبية التي تتكرر في الكتاب المقدس. فيما يلي مخطط يوضح ترتيب أفكار المزمور.[2]
أ: الله يقضي وسط الآلهة (ٱللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ ٱللهِ. فِي وَسْطِ ٱلْآلِهَةِ يَقْضِي – عدد 1)
ب: التُهمة الموجهة ضد الآلهة (حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْرًا وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ ٱلْأَشْرَارِ؟ سِلَاهْ – عدد 2)
ج: مهمة (أو إرسالية) الآلهة (اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا ٱلْمِسْكِينَ وَٱلْبَائِسَ … – الأعداد 3-4)
د: سبب فشل الآلهة ونتائجه (لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ … تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ ٱلْأَرْضِ – عدد 5)
ج َ: هوية الآلهة وعلاقتها مع الإرسالية (أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو ٱلْعَلِيِّ كُلُّكُمْ – عدد 6)
ب َ: إصدار الحكم على الآلهة (لَكِنْ مِثْلَ ٱلنَّاسِ تَمُوتُونَ وَكَأَحَدِ ٱلرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ – عدد 7)
أ َ: دعاء لله لكي يقضي وسط كل الأرض (قُمْ يَا ٱللهُ. دِنِ ٱلْأَرْضَ، لِأَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَلِكُ كُلَّ ٱلْأُمَمِ – عدد 8)
إلى من يوجِّه الرب كلمات هذا المزمور؟
لا أستطيع أن أخفي ذهولي وحيرتي الشديدة أمام بعض الإخوة ممن يتحاشون قراءة هذا المزمور. فلربما أن كلمات المزمور بنظرهم ليست موجهة لهم أو صالحة لزمانهم. إلا أنه قبل إهمال هذا المزمور، ينبغي أن نسأل: إلى من يوجه الرب كلمات هذا المزمور؟ يبدو واضحًا من أي قراءة للمزمور أن الله يخاطب من يسميهم بــ”الآلهة”. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: من هم هؤلاء الآلهة الذين يخاطبهم الله؟
تتعدد إجابات المفسرين لهذا السؤال. فمنهم من يعتبر أن كلمة “آلهة” في هذا المزمور ليس لها علاقة بالبشر، بل هي تشير إلى كائنات سماوية أو ملائكة. ومنهم من يرون في هذه الكلمة إشارة إلى رؤساء وقضاة شعب إسرائيل في العهد القديم.[3] إلا أن تفسير الرب يسوع المسيح لمعنى هذه الكلمة هو الأكثر إقناعًا بالنسبة لي. ففي إطار ردِّه على اليهود الذين اتهموه بالتجديف، يشير الرب يسوع إلى ما ورد في المزمور 82، قائلاً:
أليس مَكتوبًا في ناموسِكُمْ: أنا قُلتُ إنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إنْ قالَ آلِهَةٌ لأولئكَ الّذينَ صارَتْ إليهِمْ كلِمَةُ اللهِ، ولا يُمكِنُ أنْ يُنقَضَ المَكتوبُ، فالّذي قَدَّسَهُ الآبُ وأرسَلهُ إلَى العالَمِ، أتَقولونَ لهُ: إنَّكَ تُجَدِّفُ، لأنّي قُلتُ: إنّي ابنُ اللهِ؟ (يوحنا 10: 34-36).
إنه لمن الواضح من خلال رده على اليهود، أن الرب يسوع يعتبر أن الآلهة المذكورين في المزمور 82 ما هم إلا الذين “صارَتْ إليهِمْ كلِمَةُ اللهِ”. أي أنه بالنسبة ليسوع، فإن الآلهة هم كل شعب الله الذين تلقوا كلمته. وهذا التفسير يتماشى مع الطريقة التي يَستخدم فيها العهد القديم مُصطلح “مَجمَع اللهِ” الذي يرد في العدد الأول من المزمور 82. فلا يَرِد هذا الاصطلاح في أي مكان في العهد القديم ليشير إلى كائنات سماوية أو ليشير إلى قادة الشعب. وإنما في كل مرة تُستخدم فيها كلمة “مجمع” بالإشارة إلى “مجمع الله” في اللغة العبرية الأصلية، فإنها تشير إلى كل شعب الله (أنظر سفر العدد 27: 17 و31: 16 ويشوع 22: 16-17 ومزمور 74: 2).[4] ومما لا شك فيه هو أن شعب الله اليوم ما هم إلا المؤمنون بيسوع المسيح، الذين هم “جِنسٌ مُختارٌ، وكهَنوتٌ مُلوكيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعبُ اقتِناءٍ” (1 بطرس 2: 9).
ما هي المهمة أو الإرسالية التي يوكلها الله لشعبه؟
للأسف، يستخدم بعض الوعاظ حقيقة أن الله يدعوا شعبه بـ”الآلهة” كحُجّة للتركيز على الغنى والثراء المادي، بما يُعرف بـ”إنجيل الرخاء” (Prosperity Gospel). إلا أن هذا الاستخدام للمزمور 82 يتعارض مع قلب المزمور وجوهره. فالمهمة أو الإرسالية التي أوكلها الله للآلهة تتلخص في العددين الثالث والرابع من المزمور:
اِقضوا للذَّليلِ ولِليَتيمِ || أنصِفوا المِسكينَ والبائسَ (العدد 3).
نَجّوا المِسكينَ والفَقيرَ || مِنْ يَدِ الأشرارِ أنقِذوا (العدد 4).
السؤال الذي يطرح نفسه هو: عن أي نوعٍ من المهمات أو الإرساليات يتكلم هذان العددان؟ قد يعتقد أحدهم أن المزمور يتحدث عن “الصدقة للفقراء والمحتاجين”. فبالرغم من أهمية العطاء المادي للفقراء والمحتاجين، إلا أن الإرسالية الموكلة لشعب الله في هذا المزمور هي أكبر من مجرد “إعطاء صدقة للمُحتاج”. هناك فكرتان أساسيتان في المزمور:
-
العمل من أجل العدالة وإعطاء المظلوم حقه. هذه الفكرة تتجلى في التوازي الموجود في العدد الثالث من المزمور. والكلمتان البارزتان في هذا العدد هما “اقضوا” و”أنصفوا”، وهما فعلا أمر متوازيان. والفكرة هنا هي ليست إعطاء العدالة للذليل والبائس فحسب، وإنما العمل الدؤوب والمستمر في الدفاع عن حقوق المظلومين والمستضعفين.
-
العمل على إنقاذ المظلوم من قبضة الشرير الظالم. هذه الفكرة تتجلى في العدد الرابع. ففعلي الأمر المتوازيان في هذا العدد هما “نجّوا” و”أنقذوا”، والفكرة هنا هي إعتاق المظلوم وإطلاقه من القهر الذي يعاني منه. فالدفاع عن حقوق المظلومين في العدد الثالث، يتبعه حتميًا العمل على إنقاذهم وتخليصهم من الظلم والاعتداء الواقع عليهم.
إذاً فالإرسالية الموكلة إلى شعب الله هنا ليست مجرد “عمل خيري” أو “إعطاء صدقة للفقير”، وإنما هي إرسالية اجتماعية-سياسية بامتياز. وبالتالي، إن أخذنا كلمات هذا المزمور على محمل الجد، فعلينا ككنيسة المسيح أن نقوم بالعمل الذي أوكله الله إلينا بالدفاع عن المظلوم والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، عندما يطرح الحاكم سياسات وخطط ظالمة تقمع أفراد المجتمع وتنتهك حقوقهم، كمثل التي طرحها الملك أخآب وزوجته إيزابَلُ عندما أرادا الاستلاء على أرض نابوتَ اليَزرَعيليِّ (الملوك الأول 21)، فينبغي أن تتحرك كنيسة المسيح كما تحرك النبي إيليّا، مدافعةً ومناصرةً للمظلوم ومواجهةً للحاكم بكلمة نبوية من الرب تُدين سياساته الجائرة وتدعوه إلى التوبة وإنصاف المظلوم.
وقد يتساءل المؤمن هنا: ولكن ماذا عن إرسالية الكرازة الموكلة للكنيسة؟ أنهملها!؟ أقول مستعيرًا كلمات بولس الرسول: حاشا! “فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لَا أُبَشِّرُ” (كُورِنثوس الأولى 9: 16). فإرسالية الكنيسة الاجتماعية-السياسية ينبغي أن تأتي جنبًا إلى جنب مع إرسالية الكرازة بالإنجيل والتلمذة (متى 28: 19)، وإلا فستصبح الكنيسة مجرد مؤسسة حقوقية أخرى! وهذا بالحقيقة ما تدعوا إليه الكنيسة الإنجيلية اليوم ممثلةً بحركة لوزان العالمية، والتي أُطلقت في مؤتمرها الأول الذي عُقد في مدينة لوزان السويسرية عام 1974. وكانت نتيجة مؤتمر لوزان تثبيت مبدأ الإرسالية المتكاملة (بالإنجليزية: Holistic Mission وبالإسبانية: Misión Integral)، والذي دعا إليه بالدرجة الأولى اللاهوتيان صموئيل إسكوبار ورينيه باديليا من أمريكا اللاتينية، وتبنتها حركة لوزان بقيادة القس البريطاني جون ستوت والقس الأمريكي بيلي غراهام، لتصبح من أهم عقائد الحركات الإرسالية الإنجيلية حول العالم اليوم. تدعو عقيدة الإرسالية المتكاملة إلى عدم فصل الكرازة الإنجيلية عن العمل من أجل العدالة الاجتماعية؛ فشقي الإرسالية يسيران جنبًا إلى جنب ويُكمِّل أحدهما الآخر.[5]