العلاقة مع الغريب في المسيحية

يحتوي كتاب المسيحيين على جزئين كبيرين وهما العهد القديم والعهد الجديد. ويوجد في العهدين تنوع في التوجه نحو الغريب. فأحيانا يكون الغريب تحت نقمة الله وتدعو بعض النصوص إلى عدم الشفقة على الغريب وعلى أطفاله وحتى أنها تدعو إلى قتل الغرباء من شيوخ وأطفال ونساء (تث 7: 1 – 6). ولقد تبنى بنو إسرائيل هذا التوجه عندما احتل يشوع أريحا فقتل كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ (يش 6: 21). في ذلك الوقت اعتبروا الغريب الذي يختلف في دينه أو ثقافته مرضا أو وبأً يجب التخلص منه.[1] وهكذا فعل بعض المسيحيين المتشددين عبر التاريخ فحاربوا وقتلوا من يختلف عنهم دينا وثقافة وشوّهوا صورة السيد المسيح رئيس السلام الذي أسس كنيسة تُرحب بكل الشعوب والإلسنة بمساواة كاملة وتَعْتَبِرُ كُلَّ غريبٍ قريباً يُحبه الله ويريد أن تُظهر الكنيسة له أو لها كلَّ محبةٍ واحترام. بكلمات أخرى، الصوت الكاره للغريب لم يكن الصوت الوحيد في المسيحية أو في نصوصها الدينية. فلقد ظهرت في العهد القديم أصواتٌ أخرى كسفر يونان الذي أكد أن رحمة الله تشمل جميع البشر حتى أهل نينوى أعداء بني إسرائيل. وعندما جاء العهد الجديد، قبل المسيحيون الأوائل العهد القديم وتبنى المسيح وتلاميذه طريق المحبة بدلا من طريق الحرب خاصة مع العدو والذي يختلف عنا دينا وثقافة. وصار المسيح هو النموذج الذي يتبعه المسيحيون في التعامل مع الغريب. فتبدلت الأحوال فبدلا من التركيز على من هو الغريب الذي لا ينتمي إلينا صار السؤال: من هو قريبي الذي يجب أن أعتني به؟ وجواب المسيحية هو: كل إنسان هو قريبي مهما كانت خلفيته.

إذا لا ينظر العهد الجديد إلى الغريب بصورة سلبية بل يبيّن أن أبطالَ الإيمان في العهد القديم غرباءٌ على الأرض يزورونها زيارة عابرة. ويتحدث عن هؤلاء الأبطال فيقول في سفر العبرانيين: “في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيّوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض” (عب 11: 13). لقد كان إبراهيم وسارة غرباء إذ رحلوا من بلاد ما بين النهرين وجاءوا إلى أرض كنعان ثم تغربوا في مصر. وكان يعقوب غريبا لسنوات كثيرة عندما هرب من أخيه عيسو الذي أراد قتله. وكانوا بنو إسرائيل غرباء في مصر (تث 10: 18-19). وكانت راعوث المؤآبية غريبة في بيت لحم ولكن بفضل الله جاء النبي داود من نسلها (را 4: 22). وتغرّب موسى في البرية ويوسف في مصر ودانيال في بابل. كانوا جميعهم قدوة للإيمان الحسن وكانوا يعيشون كغرباء.

ويصف العهد الجديد المسيح بأنه مثل الغريب (مت 25: 35، 38) المحتاج إلى المسكن والملبس والطعام والشراب والعناية الطبية والاجتماعية. ويخاطب العهد الجديد المسيحيين كأنهم غرباء في هذه الحياة إذ يقول الرسول بطرس “أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء، أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية” (1 بط 2: 11). ويصف الرسول بطرس حياتنا على الأرض أنها زمان الغربة التي يجب أن نحياها بقداسة وإيمان (1 بط 1: 17).

إضافة إلى ذلك، يوصي العهد الجديد بالعناية بالغريب. يقول الرسول بولس أننا يجب أن نداوم ونستمر بإضافة الغرباء (رو 12: 13). ويصف الرسول يوحنا القائد المسيحي بأنه يحب الغرباء ويعتني بهم (3 يو 1: 5-6). ويؤكد الرسول بولس أهمية عناية القائد المسيحي بالغرباء إذ يقول: “يجب أن يكون الأسقف بلا لوم، بعل امرأة واحدة، صاحيا، عاقلا، محتشما، مضيفا للغرباء، صالحا للتعليم” (1 تيم 3: 2؛ تي 1: 8؛ 1 تيم 5: 8). ويضيف سفر العبرانيين أننا يجب أن نتذكر إضافة الغرباء إذ يقول: “لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون” (عب 13: 2). فلقد استضاف النبي إبراهيم الملائكة (تك 18: 2، 6) واستضاف لوط الملاكين (تك 19: 1). وأراد منوح والد شمشون أن يستضيف ملاك الرب (قض 13: 15 – 16) دون أن يعلم هويته الفعلية.

ولا يتحدث العهد الجديد عن التعامل مع الغريب الذي ينتمي إلى نفس القومية والدين فحسب بل يصف أهمية التعامل السليم مع الغريب مهما كانت خلفيته الدينية أو الإثنية. وهناك ثلاثة أمثلة في العهد الجديد يدرسها المسيحيون عندما يتحدثون عن موضوع الغريب. وهي قصة المرأة السامرية، قصة السامري الصالح، وقصة كرنيليوس وبطرس. ستعيننا هذه القصص على تشكيل تصور مسيحي واضح لعلاقتنا مع الغريب وخاصة في ضوء تزايد التطرف الديني والسياسي في الشرق الأوسط. لنبدأ بالقصة الأولى وهي قصة المرأة السامرية.

المرأة السامرية (يو 4: 1 – 30)

كانت السامرية غريبة بالنسبة ليهود القرن الأول.[2] وهي غريبة بسبب جندريتها وإثنيتها وتاريخها وديانتها. فهناك عدة حواجز بين المسيح الرجل اليهودي والمرأة السامرية.[3] ولقد علمنا المسيح من خلال تعامله مع المرأة السامرية أن نبني الجسور مع الذين يختلفون عنا. أولا، هناك حاجز جندري إذ سادت في القرن الأول ثقافة تحيّز ضد المرأة واعتبر البعض أن الحديث مع امرأة هو إضاعة للوقت الذي يجب أن يُستخدم في دراسة التوراة. لا عجب إذا ان التلاميذ استغربوا أن المسيح يتحدث مع امرأة سامرية (يو 4: 27). ولقد عارض الكثيرون تعليم المرأة. واعتبروا المرأة غريبة عن عالم الرجل. خلافا لهذه الأصوات، لم يستخف المسيح بالمرأة بل أكرمها وثمّنها. ولقد  أقامت مسيحية المسيح الكثير من الجسور في سبيل دعم المرأة إذ تُكرم المرأةَ وتجعلها مساوية للرجل في كل شيء. وصارت المرأة السامرية قائدة قادت قريتها إلى المسيح. والمرأة في العهد الجديد هي أول من علم عن مجيء المسيا. ويُكرم العهد الجديد العذراء التي حبلت به. والمرأة هي أول من شهد عن قيامة المسيح.

ثانيا، تُعتبر السامرية غريبة من ناحية إثنيتها وتاريخها. وربما من المناسب أن نضيف أن السامريين واليهود كانوا أعداء. وتاريخ العلاقة بينهم مليءٌ بالحرب الكلامية وبالحروب السياسية والدينية. ولقد بدأت جذور العداوة بين الشعبين السامري واليهودي عند انقسام مملكة سليمان. تمرد يربعام على رحبعام ابن سليمان. بنى رحبعام شكيم ورفض عبادة الرب لأنه إله هيكل أورشليم (1 مل 12: 21 – 33). وفيما بعد بنى عُمري مدينة السامرة سائرا في خطية يربعام الذي جعل إسرائيل يخطىء (1 مل 16: 21 – 28). غضب الله على شعبه الذي رفض تخصيص العبادة للرب وحده. فجاء الآشوريون ودمروا مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة سنة 722 ق. م. وأسكنوا خمسة شعوب أخرى في الأرض. فاختلط نسل يعقوب مع نسل الأمم. مما دفع عزرا ونحميا إلى إستثناء السامريين من المشاركة في إعادة بناء الهيكل (عز 4: 1 – 5؛ عز 9: 1 – 15). لم يُمثّل هيكل أورشليم السامريين فلا عجب أنهم قرروا أن يبنوا هيكلهم الخاص في جرزيم سنة 400 ق. م. فتوترت العلاقات بين الشعبين اليهودي والسامري ودمّر يوحنا هيركانس والي اليهودية هيكل جرزيم في القرن الثاني قبل الميلاد. وغضب السامريون ووضعوا عظاما نجسة في هيكل أورشليم. فصار اليهود يعتبرون كلمة “سامري” مساوية للشيطان (يو 8: 48). واعتبر السامريون أن اليهود من نسل الشيطان. ظنوا أن الشيطان أغوى حواء فولدت قايين الذي جاء من نسله اليهود. وهكذا كانت هناك عداوة بين السامريين واليهود وبين شعب المسيح وشعب السامرية. وفي أحد الأيام اقترح إثنين من تلاميذ المسيح أن تنزل نارا من السماء لتفني قريةً سامريةً فانتهرهما السيد المسيح (لو 9: 51 – 56). أراد السيد المسيح أن يعلم تلاميذه كيف يحبون أعداءهم ويتعاملوا مع هذه المرأة الغريبة إثنيا بصورة مليئة بالمحبة. فلم يجعل المسيح أحداث الماضي تسيطر على قرارات اليوم بل فضّل النظر إلى هذه المرأة السامرية من منظار المحبة.

ثالثا، كانت المرأة غريبة من ناحية قناعاتها وإيمانها. فلقد تزوجت خمسة رجال وكانت تعيش مع رجل ليس هو زوجها.[4] وكانت تؤمن بأن الجبل المقدس في السامرة وليس في أورشليم. إن الصراع على المواقع المقدسة مازال مستمرا في بلادنا. فبين الفينة والأخرى ينتشر العنف بسبب الصراع أو التعدي على أحد المواقع الدينية خاصة المسجد الأقصى وهو مبني في مكان الهيكل بحسب اعتقاد عدد من اليهود في القرن الواحد والعشرين. مسيحية المسيح تختلف في توجهها إذ تقبل التعامل مع الأديان الأخرى وتدخل معهم في حوار ديني وثقافي بكل احترام ومحبة كما فعل المسيح مع السامرية.[5] ولا يتنازل المسيح عن الحق ولكنه يشدد على طبيعة الله. فإن طبيعة العابد تصبح مثل طبيعة الإله الذي يعبده فإن عبدنا إلها قبليا طائفيا وغاضبا سنصبح مثله. ولكننا إن عبدنا الإله الحقيقي المليء بالعدل والرحمة والمحبة فإننا سنصبح أيضا مثله. وسنتعامل مع الآخرين بأسلوب إلهي مليء بالمحبة. إن من يكرهون الذين يحبونهم يتصرفون كالوحوش والذين يحبون الذين يحبونهم يتصرفون كالبشر ولكن من يحب حقا وبدون رياء الذين يكرهونه ويضرونه فإنه يتصرف مثل المسيح الذي قال: أحبوا اعداءكم وباركوا لاعنيكم (مت 5: 44).  ومسيحية المسيح تحارب النمطية وهذا ما سنراه في قصة السامري الصالح.

السامري الصالح (لو 10: 25 – 37)

يُقدم المسيح من خلال قصة السامري الصالح توجهاً تربوياً مختلفاً إذ يجعل العدوَ بطلَ القصة. دعوني أعيد سرد هذه القصة بكلمات معاصرة. في مقهى أروما في القدس الغربية التقى فيكتور، وهو يهودي متنصر، بأريئيل، أحد المستوطنين اليهود. احتقر أريئيل موقف فيكتور وأراد تقزيم موقفه وإيمانه والتعبير عن كرهه. فسأله عن كيفية الحصول على الحياة الأبدية. أجاب فيكتور: ماذا تعلمنا شريعة موسى؟ ألا تتحدث عن محبة لله والقريب منوّها أو ملمزا أن المستوطن لا يتعامل بمحبة مع اليهودي المتنصر. أراد أريئيل تبرير نفسه، فقال ولكن من هو القريب؟ وهنا أجابه فيكتور راويا القصة التالية: كان رجل يهودي يقود سيارته من القدس إلى أريحا. وعلقت سيارته وسط مظاهرة فلسطينية ضد المستوطنين. وتطايرت الحجارة والطلقات النارية في الهواء وانتشر الغاز المسيّل للدموع في كل مكان. مما جعل وضع السائق في خطر شديد خاصة بعد اصابة سيارته بالحجارة. واضطر السائق إلى التوقف إذ أصيب وسالت الدماء منه وتحطمت سيارته. وخرج من السيارة ليهرب ولكنه وقع على بعد مرمى حجر وأغمي عليه. انفضت المظاهرة وغادر الجميع المنطقة دون ان ينتبهوا للسائق الذي كان في الوادي خلف التلة. في ذات اليوم، توجه مستوطن يهودي إلى القدس ليصلي، فرأى المُصاب ولكنه قرر عدم مساعدته لأنه مستعجل وخائف. ثم مرت سيارة معلم يهودي كبير وهو في طريقه ليلقي عظة دينية عن الشريعة. رأى معلم الشريعة الرجل المُصاب فتوقف وخرج من سيارته ورأى الدم والرجل المُغمى عليه ولكنه قرر العودة للسيارة والاستمرار في المسير ليلقي محاضرته. أخيرا، مر سائق فلسطيني مسلم يسوق سيارة بنمرة خضراء وليست صفراء مثل السيارات المرخصة للسياقة داخل اسرائيل. توقف الفلسطيني وحمل الرجل المُصاب وأسرع به إلى المستشفى بالرغم من المخاطر الأمنية. وقضى الليل مع المستوطن المُصاب واشترى له طعاما ودفع من جيبه ليسدد كل النفقات. ثم ترك رقم هاتفه الخلوي وأعلم المستشفى أنه مستعد للمساعدة بكل ما يلزم لعلاج المُصاب أو لطلب سيارة وإرساله إلى بيته بعد شفائه بإذن الله. من تصرف مع المُصاب كقريب؟ ليست هذه القصة سهلة في أذن الإنسان اليهودي. وربما أيضا ليس من السهل أن نروي قصةً لإنسان فلسطيني في بيت لحم ويكون بطلُ القصة مستوطنا يهوديا كما أنه ليس سهلا أن نحكي قصةً للمستوطن اليهودي في قرية أربع ويكون بطلُ القصة مُسلما فلسطينيا من الخليل ولكن هذا بالضبط ما فعله السيد المسيح بهذه القصة إذ كسر النمطية التي تسيطر على فكر الشعب عندما يتعاملون مع إنسان يعتبرونه غريبا وعدوا.

ونتعلم من هذه القصة أن الله ليس إله إسرائيل فحسب بل إله الكون كله فهو إله الخليقة. فعندما نحب الله نحب كل خليقته ونكتشف أن قريبنا كلُ إنسانٍ مخلوق على صورة الله. ويشرح السيد المسيح أن مسافرا وقع بين اللصوص وأنهم اخذوا ثيابه وضربوه وجرحوه وتركوه في وضع قد لا يستطيع فيه أن يتكلم فصار من الصعب معرفة إثنيته أو هويته من لباسه أو لهجه كلامه ولكننا لا يمكننا أن نشك في إنسانيته. فهل تكفينا إنسانيته لنساعده في ظروفه الصعبه؟ وهل تكفينا إنسانيته لنظهر له المحبة والرحمة؟ تقديم الرحمة للمحتاج خاصة إن كان غريبا هو تعبير حقيقي عن محبتنا لله وترجمة هذه المحبة بصورة عملية. والآن لنتحاور مع القصة الأخيرة قبل وضع بعض الملاحظات الختامية.

كرنيليوس وبطرس (أع 10: 1 – 33)

بطرس هو رجل يهودي أما كرنيليوس فلم يكن يهوديا. بطرس هو تحت الاحتلال الروماني وكرنيليوس هو قائد كتيبة عسكرية رومانية. بكلمات أخرى، هناك فروقات دينية وثقافية وسياسية بين بطرس وكرنيليوس. وبسبب هذه الفروقات من الصعب أن يجتمعا إلا إذا بنى اللهُ جسراً بينهما. وهذا بالضبط ما نراه في هذه القصة. جماعة كرنيليوس استغلوا جماعةَ بطرس وسيطروا على بلادِهم ونهبوا خيراتهم. وجماعة بطرس اعتبروا شعب كرنيليوس نجساً. يقول بطرس: “أنتم تعلمون كيف هو محرّم على رجل يهودي أن يلتصق بأحد أجنبي أو يأتي إليه وأما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما إنه دنس أو نجس” (أع 10: 28). وبعد أن اقتنع بطرس بأن الله إختار أن يبارك اليهود المختنونين والأمم غير المختونين، شارك إيمانه مع الآخرين. وتجرّأ فكسر التقاليد التي تربى عليها وتحدى القناعات الدينية التي نشأ عليها لأنه رأى نور مسيحية المسيح وأدرك أن كل إنسان هو قريبي وهو أخي واختي وأبي وأمي وجاري مهما كانت لغته او ثقافته او قناعته. يكفينا أنه إنسان مخلوق على صورة الله. وهذا وحده يدفعني أن أفكر بمستقبل أفضل ليس لي فحسب بل لكل إنسان حولي أيضا.

ملاحظات ختامية

في ضوء ما سبق، يلتزم المسيحيون بإضافة الغرباء ومساعدة المحتاجين من المسيحيين وكل إنسان مهما كانت خلفيته الدينية أو الإثنية. وينطبق هذا الأمر على مساعدة اللاجئين من بلاد منكوبة او مساعدة الفقراء والمحتاجين سواء أكانوا يهودا أم عربا، مسيحيين أم مسلمين. وأود الآن أن أشدد على بعض الدروس التي نستنبطها من الطرح أعلاه. أولا، نحن كمسيحيين لا نستطيع الادعاء بالتفوق الأخلاقي على المسلمين أو اليهود. لا نستطيع أن نقول أننا أشرف وأنبل منكم فديانتنا خالية من الدماء ودينكم ينشر سفك الدماء اينما ذهب. هذا الادعاء لا يتغاضى عن تاريخنا المليء بالدماء فحسب بل يتغاضى أيضا عن كثير من صانعي الرحمة والسلام بين اتباع الديانة الإسلامية أو اليهودية أو الديانات الأخرى. وربما من الأفضل أن نترك عقلية الفريسي الذي يقارن أعظم ما عنده بأسوأ ما عند غيره فلا يرى سواد قلبه. أما العشار فكان يمتلك العقلية الصحيحة إذ قال: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. وليس هذا الادعاء للفرد فحسب بل أيضا لكل اتباع المسيح إذ نقول معا في وجه الديانات الأخرى اخطئنا في حقكم ونطلب رحمة الله. ونتواضع لنبارك بدلا من أن نتكبر لنتسلط.

ثانيا، إن التقوقع والانغلاق والاقصاء قاد الكثيرون منا إلى عقلية السيف والتخلص من الآخر. ولكن جوهر المسيحية يكمن في التواصل وفي لاهوت التجسد إذ صار الله بشرا ليجسد لنا الرحمة والمحبة والعدل. مسيحية المسيح هي مسيحة متجسدة تتواصل مع السامرية وتكسر النمطية وتخاطر لتصل إلى كرنيليوس فتكتشف المفاجآت الإلهية. وليس التوجه المسيحي المقاطعة المستمرة لمن حولنا سواء أكانوا مسلمين أم يهودا بل علينا أن نحارب الظلم بالمحبة والحوار وصنع السلام وعلينا أن نبحث عن كل طريق ينشر العدل من منطق المحبة والتواضع وليس من منظار المصلحة الفردية او الاثنية.

ثالثا، إن الصفحات أعلاه يجب أن تنبهنا أن الكتاب المقدس هو سيف ذو حدين فقد يكون سكينا في يد الشيطان تذبحنا وتهرق دماء شبابنا أو قد يكون بلسما في يد الإله التي تشفي وترحم دون تعصب أو تطرف.  قرأ الشيطان الكتاب المقدس واقتبسه عندما جرب المسيح في البرية (مت 4: 1 – 11)، وقرأه الفريسيون ولم يفهموه بل سمحوا بالانتقام قائلين: “عين بعين وسن بسن” (مت 5: 38). وقرأ الخصي الحبشي سفر أشعياء ولم يفهمه دون ارشاد فيلبس (أع 8: 26 – 40). ويجب أن نقرأ الكتاب المقدس كتلاميذ يسوع. تلميذ يسوع يتميز بالمحبة والرحمة وهو أو هي ليس كالناموسي الذي كره يسوع المسيح والسامريين وافتقر إلى الرحمة. فالمولود من الله يتميز بالمحبة. يقول الكتاب المقدس: “أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله” (1 يو 4: 7). إن المحبة هي طريق الخلاص في العهدين القديم والجديد لأنه يوجد وسيلة واحدة للخلاص في العهدين وهي الإيمان العامل بالمحبة. فالإيمان بدون محبة ميت.[6] ولقد أحب السامري الإنسان اليهودي المُصاب فاقترب منه وتحنن وضمد جراحاته بثيابه وصب من زيته وخمره واركبه على دابته وسار بقربه واعتنى به ودفع من ماله ليضمن سلامة المُصاب. ولكن الناموسي تميز بالتعصب والتزمت والإنغلاق. فلم تكن مشكلته نقصا في المعلومات إذ عرف وصية المحبة (تث 6: 5؛ لا 19: 18). وربما رددها مرتين في اليوم. كانت المشكلة نقصا في السلوك بالمحبة وليس في معرفة الآيات التي تتحدث عنها. لقد قرأ النص بطريقة فصلته عن المحتاج والفقير والغريب والمتألم والمسلوب. كان عنده ازدواجية فصلت بين حياته الدينية وحياته في المجتمع خاصة مع الذين يختلفون عنه. لهذا أراد المسيح أن يزيل البرقع من أمام أعين هذا الناموسي ويعطيه العدسة الصحيحة لقراءة كلمة الله. إنها عدسة المحبة العاملة وليست المحبة النظرية. فيجب أن نقرأ الكتاب المقدس لنحب الله والقريب بالفكر والسلوك كما فعل السيد المسيح من قبلنا.

وتتجاوز عدسة المحبة الحواجز السياسية والعرقية وعدسة التعصب. فلقد قرأ الناموسي كتابه بطريقة تستثني الشعوب الأخرى. وهنا أختم بما قاله بطاركة الشرق الكاثوليك:

لا ريب في أن التعصب بكافة أشكاله – باسم الله أو الدين أو القومية او الطائفة او الأرض أو العرق أو اللغة او باسم الانتماء الحضاري أو الثقافي أو الاجتماعي – هو عدو الحوار الاول. إن الفرق شاسع بين المؤمن والمتعصب: فالمؤمن يستخدمه الله، اما المتعصب فانه يستخدم الله؛ والمؤمن يعبد الله، اما المتعصب فيعبد نفسه متوهما انه يعبد الله؛ والمؤمن يسمع كلام الله، اما المتعصب فيشوهه؛ والمؤمن يرتفع الى مستوى الله ومحبته، اما المتعصب فيُنزل الله إلى مستواه؛ والمؤمن يتقي الله، أما المتعصب فيهدد الآخرين باستمرار؛ والمؤمن يكرّم الله، اما المتعصب فيحطّ من قدره وسموه؛ والمؤمن يعمل مشيئة الله، أما المتعصب فيضع مشيئته هو مكان مشيئة الله؛ والمؤمن نعمة للبشرية، أما المتعصب فنقمة عليها. إن التعصب شكل من أشكال إنكار الله والإنسان معا. في المتعصب تتحول طاقة الإيمان والمحبة الى طاقات للكراهية والاعتداء، ظنّا منه أنه يؤدي لله عبادة إذا ما اعتدى على من يختلف عنه دينا او عرقا او لغة او لونا او تراثا. أما في المؤمن فانها تتحول الى طاقات تلاق وتعاون وبناء.[7]

[1] الرؤية الثيوقراطية زمن يشوع لم تكن رؤية دينية فحسب بل كانت أيضا رؤية ثقافية. ولقد سعت نحو تأسيس ثقافة واحدة تسود على الكل. وهي ثقافة بني اسرائيل. ولكن الرؤية المسيحية متعددة الثقافات إذ تلتزم بالقيم الإلهية الثابته وفي ذات الوقت تحتفل بالتعددية الثقافية وتساوي الثقافات. وهكذا سيسبح البشر الله بكل الألسنة وستسجد له كل الركب. للمزيد من المعلومات عن سفر يشوع والرد المسيحي لتحديات السفر ارجو مراجعة

Richard Hess, Joshua (Downers Grove: Intervarsity, 1996).

[2]  موضوع المرأة السامرية واهتمامها بالجغرافيا المقدسة مهم للسياق الفلسطيني. للمزيد من المعلومات راجع يوحنا كتناشو، إنجيل يوحنا بنظرة مختلفة (الناصرة: كلية الناصرة الإنجيلية، 2017).

[3]Mary Pazdan, “Nicodemus and the Samaritan Woman: Contrasting Models of Discipleship,” BTB 17 (1987): 145-148; D. A. Carson, The Gospel according to John (Pillar New Testament Commentary; Grand Rapids: Eerdmans, 1991), 216.

[4]في قرية صغيرة، ربما تزوجت هذه المرأة كل الرجال الذين تستطيع ان تتزوجهم. وهي الآن قد صارت خارج الدوائر الاجتماعية والاخلاقية المقبولة في المجتمع. ولكنننا يجب أن نتذكر أيضا أن المرأة في القرن الأول في فلسطين لم تستطع أن تعيش دون مساعدة رجل لها.

[5]للمزيد من المعلومات عن الحوار الديني البناء، راجعو قصة ملكة سبأ وطريقة تعاملها مع سليمان. انظروا إلى

حنا كتناشو، “ملكة سبأ العربية” رابطة الشرق الأوسط للتعليم اللاهوتي: المجلة 1 (2014): 1 – 9.

[6] يقول الرسول يعقوب أن الإيمان بدون أعمال ميت (يع 2: 20)، ويشرح القديس اوغسطين أن كل من لا يحب يكون إيمانه باطلا. وهكذا يكون الإيمان بدون محبة ميتا. للمزيد من المعلومات راجعوا كتاب اوغسطين المتميز.

Saint Augustice. Handbook on Faith, Hope, and Love (trans. Albert Outler; Grand Rapids: Christian Classics Etheral Library), 76; available online at http://www.ccel.org/ccel/augustine/enchiridion.pdf; accessed on Dec 14, 2015.

[7] رفيق خوري، سداسية لأزمنة جديدة: الرسائل الراعوية الست الأولى لبطاركة الشرق الكاثوليك (القدس: البطريركية اللاتينية، 2008)، 173.

+ مقالات