في الذاكرة الفلسطينية أجمع، شهر أيار هو شهر يتذكر فيه الفلسطينيون النكبة. وهي كارثة مستمرة بدأت عام 1948 بطرد أكثر من نصف سكان فلسطين، وتستمر اليوم من خلال الاحتلال العسكري القاسي والتمييز المنهجي. الذكرى مهمة للغاية، فهي تسمح لنا بتكريم أسلافنا وحياتهم وتحدياتهم. وهي تخبرنا لماذا نحن هنا، ومن خلال القيام بذلك، تشكل ذكرى الأجداد هويتنا ومدى تأثيرنا. علاوة على ذلك، فهي تشكل موقفنا وسلوكنا تجاه أولئك الذين ارتكبوا وما زالوا يرتكبون الفظائع ضد شعبنا. ولكن، إذا لم نتذكر بالشكل الصحيح، فقد تترك لنا هذه الذكرى في أنفسنا المرارة والغضب والانتقام.

إن مفهوم الذكرى مهم أيضًا في الكتاب المقدس، حيث يوصينا الله باستمرار أن نتذكر، ولكن بطريقة تعويضية. على سبيل المثال، يثني الله في سفر الخروج على شعب إسرائيل ليتذكروا وضعهم كغرباء وشعب مضطهد. وبالتالي، يجب عليهم رعاية الغرباء والضعفاء، وعدم ارتكاب نفس الجرائم التي ارتكبت ضدهم في مصر. وبالمثل، نرى في عشاء الرب الأخير يسوع يأمر تلاميذه أن يتذكروا من هو، وماذا سيفعل على الصليب وعبر القيامة. الرسالة في كلتا الحالتين ليست العيش في الماضي أو نسيانه، ولكن تذكره بطريقة تعويضية من أجل أن نكون أمينين نحو الله.

كانت النكبة ولا تزال مدمرة للمسيحيين الفلسطينيين، إذ تم اقتلاع حوالي 60٪ من المسيحيين الفلسطينيين الذين أصبحوا لاجئين بعد حرب عام 1948، وما زالت أعدادهم تتضاءل. كان المسيحيون الفلسطينيون في عام 1948 يميلون إلى أن يكونوا من الطبقة الوسطى والعليا، وعندما تم طردهم، تم تدمير مجموعة كاملة من الأطباء والمحامين ورجال الأعمال والسياسيين ذوي التعليم العالي. كما تم تدمير المكتبات والمدارس في مدن مثل حيفا ويافا والقدس الغربية. لا يزال بإمكان المرء أن يرى الإرث المعماري الذي خلفه هؤلاء الناس في القدس اليوم. على المرء فقط أن يتجول في أحياء الطالبية والبقعة والقطمون لرؤية المنازل الرائعة والجميلة. لم يكن هؤلاء المسيحيون الفلسطينيون متعلمين ومؤثرين فحسب، بل كانوا متعددي الثقافات والإبداعات. من المحتمل أن يتناسب مع هذه الفئة آباء الشخصيات مثل الأديب إدوارد سعيد والمعلم والكاتب خليل السكاكيني والراهبة ماري ألفونسين دانيل غطاس. إذ يمكنهم التنقل وبناء الجسور بين اللغات والتقاليد والأديان. فما زلنا نأسف على فقدان هؤلاء الأفراد والمجتمعات الرائعة.

ومع ذلك، لا ينبغي أن نتحدث كثيرًا عن الخسارة المريرة، لأن المسيحيون الفلسطينيون يواصلون تجسيد الصمود. فقد كنا شخصيات رئيسية في إنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات. كما تأسست معظم دور الأيتام في بيت لحم وتمت ادارتها من قبل مسيحيين فلسطينيين. وأيضا أسست عائلة مسيحية جامعة بيرزيت وهي الجامعة الأولى في فلسطين. علاوة على ذلك، فإن المسيحيون الفلسطينيون في الشتات كانوا أيضا من الشخصيات القيادية. إذ قام إدوارد سعيد الشهير بتغيير العلم بالكامل من خلال كتابه الاستشراق، ولا يزال يحظى بتقدير كبير اليوم بعد وفاته. كما كان هناك إحياء للثقافة والفن والموسيقى، على الرغم من الاعتراض والقمع. وأيضا يتم جمع المطرزات الخاصة من العديد من المناطق لعرضها في المتاحف، مثل مجموعة مطرزات آل مُنيّر. وبالمثل، كان للمسيحيين الفلسطينيين نفوذا وتأثيرا في المجتمع المدني والسياسة في فلسطين والخارج.

لم يتم استبعاد اللاهوت في هذا التجسيد للصمود. إذ يتطور اللاهوت المسيحي الفلسطيني وينمو بخبرة في مجالات فريدة. على وجه الخصوص، تحدى اللاهوت الفلسطيني العديد من الحدود والافتراضات للفهم اللاهوتي الغربي في مجالات لاهوت الأرض والمصالحة والعدالة والحوار. وقد تم ذلك من قبل مجموعة متنوعة من اللاهوتيين من مختلف الثقافات واللغويات والبلدان والطوائف. وقد كانت مؤسسات مثل كلية بيت لحم للكتاب المقدس، إلى جانب مؤتمر المسيح أمام الحاجز، والسبيل، وكايروس، ودار الكلمة، والمصالحة وغيرها من رواد هذه المنطقة.

في الختام، علينا أن نتذكر تاريخنا، بما في ذلك النكبة الجارية، بطريقة تعويضية. فتعرف على تأثيرها المدمر، ولكن في نفس الوقت، تذكر صمود المسيحيين الذين عاشوا في هذه الأرض قبلنا. يجب أن يحولنا هذا المصدر من الصمود ويعطينا الدافع والطاقة والأمل من أجل مستقبل “جسد المسيح” في هذه الأرض وبركة جميع الناس.

بقلم بروفيسور سليم مُنيّر، محاضر في كلية بيت لحم للكتاب المقدس

+ مقالات