وتستمر محاولات محي الوجود الفلسطيني من أرضه التاريخية. إن خطة الضم الإسرائيلية الأخيرة ليست سوى حلقة من مسلسل سلب الأرض وتهجير الشعب الذي تمتهنه دولة الاحتلال الإسرائيلي وحلفائها من الصهاينة المسيحيين بحق الفلسطينيين. لكن، إن قرأنا التاريخ بوضوح، فسوف نلاحظ بأن المشروع الصهيوني منذ بدايته يهدف إلى احتلال كل الأرض بما لا يعطي فسحة أمل للفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة خاصة بهم يوماً ما. إلا أن في الشهور الأخيرة، جعلت هذه الخطة أكثر وضوحاً مع اعتزام دولة الاحتلال اقتطاع ما يقارب 30% مما تبقى من الضفة الغربية. بذلك، تتنكر الحكومة الإسرائيلية لكل اتفاقيات السلام والقوانين الدولية التي تؤكد على عدم شرعية الاحتلال والمستوطنات وتدعم الحق الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967. لكن، وبكل شفافية وصدق، إن ما يحدث إلا فرض لسياسة الأمر الواقع التي تتجاهل الإنسان والأرض والآمال الفلسطينية. إن خطة الضم الإسرائيلية-الأمريكية لمساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية ليست سوى عملية سرقة ونهب واستمرار لخطيئة منظمة يرتكبها الإسرائيليين بحق الفلسطينيين. لذا، فإن المصطلح المسيحي والكتابي الأنسب لوصف هذه الخطة بأنها خطيئة. فما هو الموقف المسيحي والكتابي الفلسطيني من خطيئة الضم الإسرائيلية؟
أولاً، تؤكد وثيقة كايروس فلسطين المسكونية “وقفة حق” على أن الاحتلال هو خطيئة بالقول بأن “الاحتلال العسكري لأرضنا هو خطيئة ضد الله والإنسان.” لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وأعطاه الأرض. إن الأرض هي هبة الله للإنسان لممارسة حياته ووجوده. بدون الأرض، لا يوجد إنسان، فالإنسان يُعرف الأرض، وبدون الإنسان تكون الأرض ليست سوى مفهوماً نظرياً. لذا، فإن مصير الأرض والإنسان مشترك بالوجود والمصير. إن سرقة الأرض من الإنسان -أو الإنسان من الأرض- تعني إنكار حقه في الحياة والوجود المعطى له من الله. لقد وهب الله الأرض للإنسان لكي يعيش عليها، يرعاها ليستمتع بخيراتها، ويشاركها بالعدل مع أخوته في الإنسانية. إلا أن خطة الضم الإسرائيلية، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، تسعى لسب الإنسان الفلسطيني أرضه، أي من حقه في الحياة والوجود، وبذلك فإن سلب الأرض من الفلسطيني، عوضاً عن مشاركته بها بشكل عادل، يعتبر تعدياً صريحاً على هبة الله وحق الإنسان الفلسطيني في الحياة والوجود على أرضه.
ثانياً، إن سرقة الأرض الفلسطينية من الإنسان الفلسطيني هي خطيئة تتجاهل وصية الله لشعبه في القديم وللكنيسة. فهي كسر للوصية الثامنة “لا تسرق” (خروج 20: 15)، وأيضاً للوصية العاشرة “لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك” (خروج 20: 17). لم يكتفي الاحتلال الإسرائيلي باشتهاء الأرض الفلسطينية وما عليها، بل تمعن في سرقتها وقتل حق الإنسان الفلسطيني في الوجود. في كتابه لاهوت التحرر الفلسطيني شبه اللاهوتي الفلسطيني نعيم عتيق قضية سلب الإسرائيليين لأرض الفلسطينيين بقصة سرقة الملك أخاب لكرم نابوت اليزراعيلي (1 ملوك 21). لقد أقدم الملك أخاب على اشتهاء وسرقة -بمساعدة زوجته- كرم نابوت بعد قتله. وهنا يمكننا أن نرى التشابه حتى يومنا هذا، فإن الاحتلال الإسرائيلي يأخذ دور أخاب في اشتهاء الأرض الفلسطينية، بينما يأتي الموقف الأمريكي والصهيوني المسيحي كدور إيزابيل -زوجة أخاب- التي تعد الخطة والمؤامرة للتخلص من نابوت لاحتلال كرمه. أما الفلسطيني فهو نابوت المظلوم الذي يسلب حقه في الحياة وأرضه. لكن ينبغي أن نتذكر، بأن الله إله عادل ويرفض الظلم. فقد أدان الله أخاب وزوجته. لذا، فإننا كفلسطينيين لنا رجاء بتدخل الله لإرساء الحق والعدل. لكن في ذات الوقت يجب أن نتذكر بأن الله تكلم من خلال نبيه إيليا ضد خطيئة أخاب وإيزابيل. وهنا أنتقل للنقطة الثالثة.
ثالثاً، إن واجبنا كمسيحين فلسطينيين أن نكون الصوت النبوي الذي يتكلم الحق ويواجه الظالم بظلمه، كما فعل النبي إيليا. أيضاً، عندما أرتكب الملك داوّد خطيئة الزنى مع بتشبع، أرسل الله نبيه ناثان لتأنيب داوّد على خطيئته (2 صموئيل 12). إن الصوت النبوي هو صوت الله الذي يدعو الإنسان للعيش بعدل وسلام بحسب المشيئة الإلهية، لذا فهو أيضاً يواجه الظالم ويؤرقه حتى يتوب ويصلح ظلمه. إن جوهر إرسالية المسيح والكنيسة هو إرساء ونشر ملكوت الله القائم على العدل والسلام والمحبة والعيش المشترك، بل وأيضاً تقديم البديل الأفضل عن ممالك العالم القائمة على الظلم والاستبداد. إن رسالة الملكوت هي صوت نبوي في عالم مظلم، تدعوا للتوبة والتجديد. إن الكنيسة بشكل عام، والكنيسة الفلسطينية بشكل خاص، عليهم مسؤولية أن يكونوا صوت الملكوت النبوي في مواجهة خطيئة الاحتلال وسرقة أرض الفلسطينيين، بل وأيضاً الدعوة للتوبة عن الاحتلال والظلم والسعي لنشر السلام ومبادئ العيش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إن دعوتنا كمسيحين فلسطينيين هي بأن نكون صُنّاع سلام ورسل للمصالحة. فإن السلام والمصالحة يتطلبان العدل والحق. وهنا أثمن إعلان لجنة كايروس لأجل العدالة، صرخة رجاء، الذي يأتي كصوت فلسطيني ودولي نبوي لمواجهة خطة الضم الإسرائيلية والدعوة للعدل والسلام. إن الواقع الفلسطيني مؤلم وخطير بسبب الهجرة المتزايدة للمسيحين الفلسطينيين. ولا يمكننا تجاهل دور الاحتلال في تفاقم هذه المعضلة. فبحسب أخر دراسة أعدها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسيحة (2020)، نحو 36% من المسيحيين الفلسطينيين يفكرون بالهجرة. لذا يجب علينا أن نتمعن بأن هنالك خطر محدق، فقد تُحرم أرض فلسطين من ملحها ونورها، من صوتها النبوي، من صناع السلام ورسل المصالحة. قد تبقي كنائسنا شهادة على تاريخ مضى، ووجود انتهى، لتقف كمتاحف لزوار ورجال دين يتحدثون عن ماضيٍ بلا حاضر. كمسيحين فلسطينيين، ومسيحيين بشكل عام، لا يمكننا الاكتفاء بموقف الضحية والانعزالية أو الحياد، بل أن نكون فاعلين حقيقيين، مدافعين عن الحق، ملح لهذه الأرض، ونور فيها. فإن لم نكن كذلك، فما نفع وجودنا؟