بقلم د. سليم منيّر

في الأيام الأخيرة الماضية كنت أسمع بعض المسيحيين الإنجيليين وهم يحاولون تفسير نشوء فيروس الكورونا مستخدمين مصطلحات لاهوتية نجدها في سفر رؤيا يوحنا. واحدة من اكثر التفسيرات الشائعة هذه تعتبر فيروس الكورونا كجزء من الأزمنة الأخيرة ودينونة الله للعالم. بكلمات أخرى، فان الله يعاقب البشرية بسبب خطاياها وذلك من خلال  فيروس الكورونا. يعتقد المسيحيين الذين يتمسّكون بهذا الرأي بأن أفضل مواجهة للفيروس تتحقق من خلال التوبة.  إذا تاب البشر سيختفي الفيروس. إضافة الى ذلك فإنهم يعتقدون بأنه وفي المستقبل القريب ستحدث المزيد من الكوارث. إن هذا الفكر وردة الفعل نابعين من فهمهم لأحداث الأزمنة الأخيرة المكتوبة في سفر رؤيا يوحنا.

لقد  بدأت  في تدريس سفر رؤيا يوحنا في كلية بيت لحم للكتاب المقدس منذ فترة ليست بالقصيرة. وأحيانا ما أواجه ردود فعل مشابهة من بعض الطلاب الدارسين لهذا السفر. من ناحية، يخاف بعض الطلاب ويرتبكون عند التعامل مع لغة هذا السفر وأسلوبه البلاغي. ولهذا فإن  مثل هؤلاء الطلاب وبعض المسيحيين يقررون تجاهل هذا السفر عند قراءتهم للكتاب المقدس بسبب أسلوب السفر الصعب. ومن ناحية أخرى فقد  أساء بعض  الطلاب تفسير هذا السفر عندما قرروا أن يدرسوه، فلم يفهموه. أحد أكثر الأخطاء شيوعا هي قراءة سفر الرؤيا بشكل حرفيّ وتجاهل نمط اللغة الفريد المستخدم فيه. من أول الأمور التي أقولها لطلابي عندما نبدأ بدراسة النص معا أنه كلما أقرأ وأدرس وأعلّم هذا السفر، استمتعت به أكثر وأدركت البركات التي يحتويها لعصرنا هذا. يقول يوحنا اللاهوتي وهذا خاص بهذا السفر من غيره من الأسفار الأخرى الكتابية بأنه سوف نتبارك عند قراءتنا كلمات هذه النبوءات.  “طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ.” رؤيا ١: ٣.  يقدم لنا هذا السفر الكثير من الأشياء. في هذه المقالة القصيرة، أسعى لأن أقدم  ثلاثة  أمور مفيدة استخلصتها انا وطلابي فيما يتعلق بالتعامل مع سفر الرؤيا وسط الأزمات.

١- إن سفر الرؤيا ليس سهلا!

هناك العديد من المدارس الفكرية التي تتطرق لسفر رؤيا يوحنا وهذا يؤثر على طريقة تفسيرنا للنص. سوف أستعرض هنا أربع مناهج شائعة (بالطبع  هناك المزيد).

أ- المنهج التاريخي: يستخدم هذا المنهج عادة في الكنائس البروتستانتية الغربية ولا يستخدم في التفسيرات العصرية وليس على سبيل الحصر بالتأكيد. يميل هذا المنهج  إلى فهم وتفسير سفر الرؤيا كسرد تاريخي لماضي الكنيسة التي نشأت في أوروبا، ابتداء من الرسل وصولا  إلى نهاية العالم. إذا، فان سفر الرؤيا وفقا لهذا المنهج هو سلسلة من النبوات من عند الله بخصوص الأحداث المستقبلية التى لها علاقة بالكنيسة الأوروبية. هذا يعني أن تتميم هذه النبوات يحصل في وقتنا هذا إذ قد ابتدأ منذ زمن الرسل.  إن من يتبّع هذا الفكر يستطيع أن يحسب ويتوقع تواريخ وأزمنة الأحداث التي أوحاها الله في إطار الزمن الحالي والمستقبل القريب.

ب- المنهج السلفي (الظرفي): يقر هذا المنهج بأن الأحداث المكتوبة في سفر الرؤيا قد تمت مباشرة بعد الانتهاء من كتابة هذا السفر. ولهذا فإن تتميم سفر الرؤيا لا يعني لنا شيئا في زماننا الحاضر ولا في المستقبل، اذا أن كافة الأحداث قد تمّت بالفعل. وجب التنويه أنه ليس كل  مؤيدي  هذا “المنهج السلفي” يعتقدون أن أحداث السفر قد تمّت بالفعل، وأن الإصحاحات الأخيرة  والجزء الأخير من السفر سوف سوف يتحقق عن قريب. على أيّة حال فإن هذا المنهج يقول إن اللغة والأسلوب البلاغي المستخدمين في سفر الرؤيا يجب أن يفهما في سياق بيئة الكاتب كي تُفهم هذه النبؤات.

ج- المنهج المستقبلي: يفيد هذا المنهج بشكل أساسي بأن معظم نبوءات سفر الرؤيا لم تتم حتى الآن. في الواقع فإن أغلب تفسيرات هذا المنهج تفيد بأن الأحداث الواقعة بعد الاصحاح الرابع سوف تحدث في المستقبل. وعندنا تتم هذا النبوءات فإن مجيء المسيح سيكون سريعا. تسود التفسيرات الحرفية للنبوءات في هذا المنهج أيضا. هذا يفسّر التتابع السريع للأحداث العالمية الحاصلة في اطار الفترة الزمنية المباشرة التي تسبق مجيء المسيح الثاني. يشتهر هذا المنهج في الأوساط الانجيلية في الغرب والاعلام المسيحي. أما في سياقنا الفلسطيني، فان المسيحيين الصهيونيين ومن يؤمنون بلاهوت التدبير هم في الغالب من روّاد هذا “المنهج المستقبلي”.

د- المنهج الروحي: لا يسعى هذا المنهج لايجاد تفسير مستقل للنبوءات ولكنّه يحاول فهم سفر الرؤيا كسلسلة من الأحداث  سريعة التتابع التي تتصل بالواقع الروحي واللامحدود. ولذلك فان أيّ منا يستطيع أن يجد تطبيقات ومبادئ بغض النظر عن السياق أو الفترة الزمنية. أيضا، يمكن لهذه الأحداث أن تتكرر عبر التاريخ.

لقد قدمنا لكم  أربعة مناهج اتعارف عليها  في تفسير سفر الرؤيا ليس بهدف التقليل من شأن أي منها  أو إظهار منهج  على حساب الآخر. بل قمنا بذلك بهدف تعريف القارىء الجديد للسفر بتعدد الطرق المختلفة للنظر في سفر رؤيا يوحنا. نجد ايضا نقاط ضعف وقوة في كل من المناهج وعلينا أن نطبق كل منهج عند التفسير وأن نميّز السمات الأكثر اقناعا. لذا فإذا حاولنا ايجاد تفسير لفيروس الكورونا المستجد من خلال سفر رؤيا يوحنا، علينا أن نعي بهذه المناهج المتعددة التي ذكرناها. من السهل أن  يساء فهم هذا السفر بأكمله اذا ما حاولنا  ربطه بوقت الأزمات لتفسيره. إننا نشجع كل المسيحيين ان  يعملوا على  قراءة وفهم سفر الرؤيا والنصوص الأخرى المتعلقة به والنظر اليها نظرة نقدية باستخدام التفسيرات المختلفة.

لا أحد يعلم:

٢- لقد شهد التاريخ أحداثا مخيفة وكارثية مثل انتشار فيروس كورونا هذا. في الحقيقة  إن هذا الفيروس أخف وطأة عند مقارنته بأحداث أليمة اخرى حصلت في العالم. منذ أن كنت طالبا في الجامعة، كنت أسمع أن يسوع سيرجع ثانية، كان هذا في العام  ١٩٨٨وذلك بعد مرور ٤٠ عاما من قيام دولة اسرائيل. لم يأت المسيح بعد ووصلنا الى العام ٢٠٠٧ حيث ابتدأ البعض يقول بأنه سيرجع في هذا العام اذ قد مضى ٤٠ عاما على حرب عام ١٩٦٧. لم يرجع المسيح أيضا في ذلك العام، وما زلت أسمع عن  تواريخ مختلفة تتوقع مجيء المسيح الثاني فيها. لذا لا يتوجب علينا أن نتسرع في توقع الأحداث والكوارث ونسبها لسفر الرؤيا. ما يمكننا أن نتعلمه من سفر الرؤيا هو أن الكنيسة تواجه تحديات باستمرار. ان أحد التحديات الرئيسية الموجودة في السفر هي الصراع بين الامبراطورية الرومانية وملكوت الله والصراع بين المؤسسة الدينية وملكوت الله. إن هذه الصدامات الموجودة لا تكون على المستوى الفردي بل على المستوى الجماعي والروحي اللامحدود. إن الرؤيا التي حصل عليها يوحنا انما تساعد الكنيسة على مواجهة هذه التحديات. لم يكتب هذا السفر لبث الرعب في نفوسنا بل من أجل تحريرنا من الخوف المحيط بالكنيسة من قبل ممالك أرضية اأخرى من أجل السيطرة عليها.

فما هي اذن طبيعة العلاقة بين الممالك الأرضية وبين الكنيسة؟ عادة ما يسيء المسيحيين فهم الاصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول الى أهل رومية بأنه علينا أن نطيع وندعم السلطات السياسية على الأرض. هذا يعد  بحد ذاته مساومة وسوء تفسير لعمل الله. ما يحاول سفر الرؤيا أن يقوله لنا ان هذه السلطات يمكن أن تخدعنا وأن تكون فاسدة. في الاصحاح ١٣ يصف يوحنا هذه السلطات بأنها الوحش. يمكنها أن تتظاهر بأنها تقف الى جانب الله لكن في الواقع تتآمر ضد ملكوت الله والقيم المبني عليها. يذكرنا هذا بأن نظرتنا يجب أن تكون ناقدة ومحللّة وأن نميّز بان كانت السلطة السياسية في زماننا تنتج ثمارا تليق بملكوت الله. اذ أنه في كثير من الحالات تسعى هذه السلطة لاستخدام نفوذها وثروتها وتوجهها الديني لاخضاعنا لمشيئتها وليس لمشيئة يسوع المسيح وملكوته. وعندما نقدم ولائنا ليسوع وملكوته سوف نختبر الاضطهاد والتحديات.

لهذا السبب يظهر لنا سفر الرؤيا بأن الله يحبنا وأن علينا ان نكون أمناء كما كان يسوع. يحاول كاتب السفر يوحنا أن يشجعنا لطرح كل مخاوفنا ومن ضمنها الخوف من الموت. لذا لا يجب أن نقرأ هذا السفر وكأنه بمثابة غضب الله علينا وادانته للعالم من خلال الكوارث الآتية. إن الله يحبنا ويعتني بنا وما زال هو الملك على كل ممالك العالم بغض النظر عن التحديات التي نواجهها. لا يجب أن نتسرع في الاستنتاج القائل بأن فيروس الكورونا هو دينونة من عند الله أو عقاب منه. على العكس، إن الله يجدد العالم ويحفظنا في وسط الصعوبات.

دورنا:

٣- يركّز سفر الرؤيا بالتأكيد على محبة الله. هذه المحبة تقوينا لكي نكون أمناء لله ولملكوته وأن نكون شهودا لمجده حتى موتنا. بدل من أن نحجب تفكيرنا وأن نعزل أنفسنا عن الوسط الذي نعيش فيه، علينا أن نصل لمن هم ضعفاء وفقراء وللذين لا صوت لهم في مجتمعنا. في نفس الوقت علينا أن نقاوم القوى المضطهدة التى تسير ضد ملكوت الله. على سبيل المثال وأثناء انتشار فيروس الكورونا، وفي وسط  الذعر والخوف  المنتشر بسرعة فائقة علينا أن نأخذ دورنا كما يقول يوحنا “جَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيه” رؤيا ١: ٦. بكلمات أخرى، إننا مدعوون لأن نشفي ونعتني بالناس تحقيقا لدور الكاهن  وبذلك نكون قد قربناهم من الله. وأيضا علينا أن

نظهر مبادئ ملكوت الله في كل مناحي الحياة بالأخص مع الشرائح المجتمعية التي لا نرتاح لها أو نكون في حالة عداء  تجاهها.

        يعتقد بعض قرّاء سفر الرؤيا بأن هذا السفر يصوّر لنا دمار العالم. إلا أن الاصحاحين الأخيرين من السفر يظهران لنا بوضوح بأن الله سيجدد خليقته ليأت بسماء وأرض جديدتين. مع كل الظلم الحاصل في العالم والذي تقوده قوى الشر، يؤكد لنا يوحنا بأن الأمناء سيتبررون أما فاعلي الشر والشيطان نفسه سوق يعاقبون. أي ان عدل الله سوف يتم بشكل مؤكد. كل ما فسد في الخليقة حتى يومنا هذا سوف يشفى ويتجدد. كما أن الانفصال والبعد بين البشر والله لن يكونا فيما بعد. “وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ” رؤيا ٢١: ٤. إن المسيح المقام من بين الأموات يعطينا الرجاء والتحفيز والقوة لأن نستمر في الشهادة من أجله وأن نخدم ملكوته إلى أن يتم تجديدنا.

+ مقالات