لطالما هضمت المجتمعات الذكورية حقوق المرأة واعتبرتها مواطن وإنسان درجة ثانية من حيث الترتيب الأسرى، المدني، والسياسي-الاجتماعي. في الأونة الأخيرة تصاعدت جرائم العنف ضد المرأة الفلسطينية وتعالت أصوات النساء الفلسطينيات في الدفاع عن حقوقهم وحمايتهم من همجية فكرية وجسدية تمارس ضدهم. إن الغليان الرافض لتلك الممارسات تجسد مؤخراً باعتصامات ومسيرات نسوية تحت شعار “طالعات” حيث دعَ المعتصمات والمعتصمون لنص قوانين تحمي المرأة من العنف الأسري وتساوِ بين المرأة والرجل. التأمل في تلك الأحداث يستدعي موقف مسيحي كتابي وكنسي واضح. لذا فالسؤال المطروح، أين يكمن دور الكنيسة في تلك الظروف والتحديات؟
بدايةً، إن الكتاب المقدس يرفض أي عنف موجه للمرأة بشكل عام، وأي فكر يحض من شأن المرأة كإنسان أقل مكانة من الرجل. إن كلاً من الرجل والمرأة مخلوقين على صورة الله ومثاله. نقرأ في سفر التكوين 1: 27 “فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم.” إن خلق الله لكلا الجنسين من ذات الصورة، أي صورة الله يعنى أن كليهما يعكسان مجده وقداسته. فالرجل والمرأة من المنظور الإلهي متساويين في المكانة والأهمية. كما أن الرسول بولس يعلم وبكل وضوح بأن لا تمييز بين المرأة والرجل فكلاهما واحد في المسيح.[i] وفي رسالته إلى أهل أفسس دعى الرسول بولس الرجال إلى محبة المرأة وتقديرها كما أحب المسيح الكنيسة.[ii] فالسيد المسيح أظهر حبه للكنيسة عبر التضحية لا السلطة القهرية.
ثانياً، يرفض الكتاب المقدس أي ظلم موجه ضد أي إنسان، مهما كان جنسه أو لونه. إن العنف الموجه ضد المرأة بشتى أشكاله ومهما كانت مبرراته هو بحد ذاته ظلم وخطيئة تخالف وصية الله الواضحة وتعدي على صورة الله في الإنسان. إن في التعدي على المرأة وقتلها -معنوياً أو جسدياً- فيه مطابقة لصورة قتل قايين لأخيه هابيل. فكما يصرخ دم هابيل لله، هكذا دم النساء المُعنفات يخترق حدود السماء طالباً عدلاً من الله. بالإضافة إلى ذلك، إن الكتاب المقدس بشكل واضح ينادي بالدفاع عن المهمشين والمنقوصة حقوقهم -في هذا الإطار فإن المرأة أهم مثال على ذلك- من أي ظلم اجتماعي أو سياسي.
ثالثاً، يؤكد الكتاب المقدس على مكانة المرأة وقدراتها القيادية بشكل مساوٍ للرجل. فإن الأسفار المقدسة تشهد عن نساءٍ قاموا بقيادة الشعب العبراني القديم في البرية، مثل مريم أخت موسى.[iii] وهنالك نسوة أخريات لعبوا أدواراً رئيسية وقيادية في حياة الشعب القديم، أمثال القاضية دبورة في سفر القضاة، واستير، التي بحكمتها قادت شعبها للخلاص.[iv] ولا يمكننا تجاهل دور السيدة العذراء مريم التي قادت مع الرسل الأوائل خدمة الكنيسة ونشر رسالة الإنجيل.[v] كذلك، فإن تاريخ الكنيسة الأولى يشهد عن نساءٍ ذي مناصب مهمة في العمل الكنسي الرسولي والإرسالي.
رابعاً، تجسد الأخبار السارة لملكوت يسوع المسيح قاعدة أساسية للنظر للمرأة بعين المساواة والتقدير. فإن كانت دعوة الكنيسة للتمثل بالسيد المسيح، فليكن ذلك واضحاً وعملياً. قد كان من بين أتباع السيد نساء أمينات دعموا المسيح في خدمته، وشهدوا لرسالته وقيامته.[vi] وإن كانت المرأة قد دُعيت للخدمة، فإنها لخدمة الله ورسالة الإنجيل، ليس للرجل أو التقاليد الاجتماعية البالية. بالإضافة إلى ذلك، إن السيد المسيح قد تحدى التقاليد الاجتماعية الذكورية السائدة في زمانه والتي نظرت للمرأة بدونية. عندما كانت شهادة المرأة محتقرة، أقام المسيح نساءً لتشهد عن قيامته. بل وأيضاً نقرأ في الأناجيل تبجيل للمرأة وشجاعتها. فعندما هرب الرجال عندما واجه السيد العنف والصلب، لم تتقاعس النساء وبكل بسالة عن التواجد بجانبه.
طالعات.. أين الكنيسة؟ إن كانت الكنيسة والمسيحيون يؤمنون بدورهم النبوي اتجاه مجتمعاتهم، إذن، كيف لذلك أن يتجلى في مجتمعنا؟
لقد لعبت الكثير من الكنائس والمؤسسات المسيحية دوراً فاعلاً في تمكين المرأة وإعطاءها حقوقها بقدر المستطاع. إلا أن هنالك بعض التحديات التي تواجه الكنيسة في هذا الخصوص. فحقوق المرأة مهضومة في الكثير من الكنائس والمؤسسات المسيحية كما في المجتمع. لازال الكثيرون يقرأون الكتاب المقدس بعيون ذكورية وأنماط حرفية يرفضها روح النص وخلفياته. كما أوضحت أنفاً، فإن الكتاب المقدس يؤكد على أن للمرأة القدرة على القيادة والتأثير كما للرجل. لذا فعلى تلك الكنائس إعادة النظر في تحديدها لدور المرأة في إطار الخدمة الكنسية وإنصافها في بعض القوانين الكنسية، وإعادة النظر أيضاً في قراءة وتفسير بعض النصوص المتعلقة بالمرأة.
يتبع ذلك، بأن على الكنيسة بشكل عام أن تتحدى الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة والتقاليد الاجتماعية السائدة التي تقلل من شأن المرأة وتعنفها. وفي واقعنا الفلسطيني، فإن الكنيسة مطالبة بأن تكون الصوت النبوي بمواجهة أي قانون أو سلطة قانونية تتجاهل تلك الجرائم الموجهة ضد المرأة بدعوى الحفاظ على السِلم الأهلي أو التقاليد الاجتماعية والدينية.
بالإضافة للدور النبوي للكنيسة، فهنالك دور خدماتي وإرسالي. فإنه بإمكان الكنيسة الفلسطينية أن تكون الملاذ الأمن للنساء المُعفنات وتوفير أي حماية قانونية وعلاج نفسي وعاطفي لهم. كذلك، يمكن للكنيسة توجيه بعضاً من طاقاتها وعلاقاتها بالتواصل مع مؤسسات مسيحية أخرى لتشكيل خدمات في مدن وقرى فلسطينية تقدم فيها دورات توعوية وخدمات مشورة للأطفال والنساء حول العنف الأسري.
في الختام، طالعات وقصص النساء المُعفنات تستدعي أن نقف ونُعيد التفكير بنظرتنا اتجاه المرأة والذكورية التي تقتل مجتمعنا. نعم، للكنيسة دور مهم للغاية. فالكنيسة هي ملح الأرض ونور العالم، فإن فسد الملح، فبماذا بعد يملح؟ فإن غاب الصوت النبوي الكنسي، فأين الكنيسة؟
يوسف كمال الخوري، محاضر في دراسات الكتاب المقدس وعلم الإرساليات في كلية بيت لحم للكتاب المقدس.
[i] راجع/ي غلاطية 3: 28
[ii] أنظر/ي أفسس 5: 25
[iii] راجع/ي خروج 15
[iv] راجع/ي قضاة 4 وسفر أستير
[v] أنظر/ي أعمال 1: 14
[vi] راجع/ي مت 27: 55، لوقا 23-24.