أثناء الانتفاضة الأولى التي اندلعت في الأراضي الفلسطينيّة في كانون الأوّل عام ١٩٨٧، تعرَّض المسيحيّون الغربيّون من خلال التلفزيون لصورٍ حيّةٍ للقمع العنيف للفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة. يتّخذ مجلس الكنائس العالميّ والفاتيكان والمسيحيّون المنتمون إلى اليمين منذ فترةٍ طويلةٍ مواقفهم من قضيّة إسرائيل والفلسطينيّين. بالنسبة لمجلس الكنائس العالميّ والفاتيكان، تُعتبر العلاقات مع اليهوديّة والعلاقة بدولة إسرائيل مسألتين منفصلتين، إحداهما لاهوتيّةٌ والأخرى سياسيّة. بشكلٍ عام، يؤيِّد كلاهما حلّ الدولتين، أو منح دولةٍ فلسطينيّةٍ صغيرةٍ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. على النقيض من ذلك، فإنّ الأصوليِّين هم من المؤيِّدين المتشدِّدين لإسرائيل الموسَّعة، بناءً على قراءتهم لنبوءات الكتاب المقدّس.
الأصوات غير المسموعة إلى حدٍّ كبير في الدوائر المسيحيّة الغربيّة هي أصوات مسيحيّي الشرق الأوسط أنفسهم. على عكس المسيحيّين الليبراليّين الغربيّين، فهم يفهمون عمومًا أنّه نظرًا لأنّ دولة إسرائيل تقدِّم ادّعاءاتٍ ضمنيّةً تستند إلى الكتاب المقدّس العبريّ، فيجب بالتالي مواجهة هذه الادّعاءات لاهوتيًّا. تمّ تجميع إحدى هذه الإعلانات منذ العام ١٩٦٧ من قبل مجموعةٍ من اللاهوتيّين المسيحيّين من الشرق الأوسط[1]، برئاسة الأب جورج خضر (الذي أصبح فيما بعد أسقف جبل لبنان السابق في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة). بعنوان «ما هو مطلوبٌ من الإيمان المسيحيّ فيما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة» يركّز بشكلٍ كبيرٍ على المعنى الروحيّ والعالميّ للإيمان المسيحيّ. فالمسيحيّة مدعوّةٌ لتكون شاهدةً على محبّة الله الخلاصيّة الشاملة لجميع البشر. لذلك يجب أن ترفض أيّ قوميّةٍ قائمةٍ على التفرُّد الدينيّ أو العرقيّ. إنّ الفصل بين الكنيسة والدولة اليوم يساعد في هذا التعبير عن الإيمان العالميّ، لأنّه يُنهي الخلط بين الإيمان الدينيّ والمواطنة السياسيّة التي ابتُلِيَت بها الديانات التوحيديّة لقرونٍ عديدة. يجب على المسيحيّين دعم الجماعات السياسيّة التي تعترف بالتعدّديّة الدينيّة والعرقيّة. بالنسبة للشرق الأوسط، ولإسرائيل على وجه الخصوص، كان هذا يعني أنّ الهدف الأمثل يجب أن يكون دولةً علمانيّةً تعدُّديّة، حيث يمكن للمسيحيّين واليهود والمسلمين العيش معًا كمواطنين متساوين.
في تشديدهم على الفصل بين الهُويّات المدنيّة والدينيّة، وإنشاء دولٍ تتمتّع بالمساواة المدنيّة للجميع، بغضّ النظر عن الدين أو العرق، كان هؤلاء اللاهوتيّون الشرق أوسطيّون يُشكِّكون في النمط القوميّ للصهيونيّة والإسلام على حدٍّ سواء. نتج عن المفهوم الصهيونيّ للدولة اليهوديّة نمطًا شبه ثيوقراطيٍّ من التفرُّد العرقيّ، حيث يتمتّع اليهود فقط بالمواطنة الكاملة. إنّ عودة الأصوليّة الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ تُعزِّز القوميّة الإسلاميّة، حيث يتمّ اختزال غير المسلمين أو المسلمين غير التقليديّين إلى مكانةٍ أدنى. لكنّ الأمر المثير للاهتمام بشكلٍ خاص هو انتقاد هؤلاء اللاهوتيّين لميل بعض المسيحيّين العرب إلى رفض العهد القديم كلِّيًّا بسبب استخدامه من قبل الصهاينة وأنصارهم المسيحيّين لتثبيت دولة إسرائيل.
بالنسبة لهؤلاء اللاهوتيّين، يعكس هذا شكلًا جديدًا من البدعة المرقيونيّة القديمة التي تقسم الكتاب المقدّس إلى إلهٍ «يهوديّ» غاضبٍ لهذا العالم وإلهٍ «مسيحيّ» سماويٍّ محبّ. لقد أصرُّوا على وجود إلهٍ واحدٍ موحًى به في عهدَين. هذا الإله الواحد هو خالق كلّ الشعوب، وليس أساس الفصل العرقيّ. لقد اختار الله اليهود واستمرُّوا في اختيارهم كشعبٍ نموذجيٍّ له دعوةٌ عالميّةٌ ليشهدوا لهذا الإله الواحد. تتلخّص دعوتهم في يسوع المسيح، لكنّها لا تحلّ محلّه. أدّى تدمير الهيكل القديم ومعه المركز القديم للهُويّة القوميّة اليهوديّة إلى تشتيت الشعب اليهوديّ بين الأمم ليكونوا شهودًا لله بين جميع الناس. يجب أن يتمّ قبولهم بين جميع الناس كمتساوين مدنيًّا ودينيًّا. هذا يعني إنهاء جميع الميول لإنشاء كياناتٍ سياسيّةٍ حصريّةٍ دينيًّا.
رأى هؤلاء اللاهوتيّون أنّ المسيحيّة الغربيّة (التي شملت، بالنسبة لهم، الأرثوذكسيّة اليونانيّة) شوَّهت دعوتها الروحيّة العالميّة من خلال اندماجها مع الدول الإمبرياليّة والقوميّة. وقد أدّى ذلك إلى ظهور أشكالٍ مختلفةٍ من العالم المسيحيّ حيث تمّ اضطهاد اليهود. إنّ تسييس المسيحيّة كعالمٍ مسيحيٍّ هو أصل معاداة الساميّة. من خلال فصل الكنيسة عن الدولة، يمكن لليهود والمسيحيّين العيش معًا على قدم المساواة. يمكن لكلٍّ منهما أن يشهد بطرقٍ مختلفةٍ لإله الكتاب المقدّس الشامل، دون الخلط بين هذه الشهادة وهُويّتها السياسيّة.
تُمثِّل الصهيونيّة والقوميّة الإسلاميّة تشويهاتٍ متوازيّةً للدين التوحيديّ والقوميّة الدينيّة. إنّ عودة ظهور هذه القوميّة الدينيّة في الشرق الأوسط، كما جاء في بيان عام ١٩٦٧، هو تراجعٌ عن الدعوات الروحيّة الأصيلة لهذه الأديان. تنشأ الأنظمة السياسيّة التمييزيّة حيث تكون الأقليّات، المسيحيّون والمسلمون في إسرائيل، والمسيحيّون واليهود في الدول الإسلاميّة، دونيّة. لقد خلطت المسيحيّة الغربيّة بين الدين والسياسة وارتكبت جرائم معاداة الساميّة. إنّها تتمنّى الآن أن يدفع الشرق الأوسط ثمن هذه الجرائم من خلال دعم دولةٍ يهوديّةٍ حصريّة. لقد أدّى ذلك إلى وجود أكثر من مليون لاجئٍ عربيّ. كان يجب إعادة دمج اليهود، الذين أصبحوا لاجئين في أوروبا، في منازلهم السابقة. بدلًا من ذلك، تمّ إرسالهم إلى فلسطين ليخلقوا ظلمًا ثانيًا ضدّ العرب. لكنّ هذه الدول رفضت تنفيذ هذا العمل من العدالة. لأنّ مسيحيّي أوروبا وأمريكا أنكروا مسؤوليّتهم عن مليون يهوديٍّ كانوا إخوتهم، فطردوا مليون عربيٍّ من وطنهم فلسطين. «ماذا فعلتَ لأخيك؟» إنّ مسيحيّي الغرب، برفضهم مليون يهوديٍّ وسلب مليون عربيّ، ارتكبوا جريمةً مزدوجةً تصرخ إلى السماء طلبًا للإنصاف.
يُنكر اللاهوتيّون المسيحيّون العرب الادّعاء الصهيونيّ بأنّ الشعب اليهوديّ يجعل اليهود أُمّة. من ناحيّةٍ أخرى، لا يقترحون أنّ اليهود أقلّ منزلةً دينيًّا وأنّه ينبغي عليهم قبول يسوع على أنّه مسيحهم. بدلًا من ذلك، يُنظَر إلى اليهود على أنّهم تجاوزوا شكل وجودهم القوميّ السابق وأصبحوا شعبًا عالميًّا يتمتّع بدعوةٍ مميَّزةٍ للشهادة للإله العالميّ الذي يوازي الشهادة المسيحيّة ليسوع المسيح. إنّ الأرض الموعودة، التي تشير إليها كلٌّ من اليهوديّة والمسيحيّة في أملهما المسيحانيّ، ليست أرضًا قوميّة، بل مملكة السماء، مصير الإنسان العابر للتاريخ في العالم الآتي. الشعب اليهوديّ نبويّ، وليس أُمّة، إنّه شاهدٌ لله بين الأمم.
تمّ اختيار العرق اليهوديّ لخدمة خلاص البشريّة وليس لتأسيس نفسه بأي طريقةٍ دينيّةٍ أو عرقيّةٍ معيّنة. بنفس الطريقة، فإنّ الكنيسة مدعوّةٌ لخدمة العالم وعدم الانغماس في أيّ غطاءٍ ثقافيٍّ أو دينيٍّ معيَّن. إنّ دعوة الشعب اليهوديّ عالميّةً وليست خاصّة. من وجهة النظر المسيحيّة، يتّضح من هذا أنّ إنشاء دولةٍ يهوديّةٍ حصريّةٍ لإسرائيل يتعارض بشكلٍ مباشرٍ مع خطّة الله للشعب اليهوديّ والعالم. مثلما كان إنشاء دولٍ مسيحيّةٍ حصريّة، في الأزمنة السابقة واليوم، يتعارض بشكلٍ مباشرٍ مع دعوة الله وخلاص العالم.
ختم البيان ببعض الاقتراحات حول حلّ القضيّة الفلسطينيّة. يجب على المسيحيّين رفض كلّ أشكال معاداة الساميّة. هذا يعني أنّه يجب على كلّ أُمّةٍ أن تدمج مواطنيها اليهود في «الحريّة الكاملة لأبناء الله». بالنسبة للمسيحيّين، فإنّ تطهير كلّ أشكال معاداة الساميّة سيقضي على الدوافع التي أدّت إلى الانحراف الموازي بين اليهود المتمثِّل في إقامة دولةٍ يهوديّةٍ متطابقة، دولةٍ يهوديّةٍ حصريّة. الصهيونيّة هي، في الواقع، صورةٌ طبق الأصل عن حصريّةٍ مسيحيّةٍ سابقةٍ معاديّةٍ للساميّة: هذا الشعب هو مرآة الإنسانيّة. تجاربهم هي تجاربنا؛ وبالتالي فإنّ انتصارنا على كلّ تمييزٍ سيكون انتصارهم. عندئذٍ، يجب على إسرائيل أن تعمل بدورها للقضاء على حصريّتها اليهوديّة، التي وُلِدَت واستمرّت في العنف. هذه ليست مسألة تسامحٍ بالنسبة للأقليّات، لكنّها دولةٌ تعدُّديّةٌ حديثة؛ عرقيّةٌ ودينيّةٌ واجتماعيّةٌ لجميع سكّان فلسطين من اليهود والمسيحيّين والمسلمين والدروز. سيعني هذا تحوُّلًا حقيقيًّا لدولة إسرائيل الحديثة من العنصريّة إلى الدعوة العالميّة لليهود التي ستؤدّي إلى ذلك.
ما الذي حدث، إنْ وُجِدَ، منذ صدور هذا البيان قبل ٥٤ عامًا؟ المسيحيّون الفلسطينيّون أنفسهم كانوا أكثر العوامل غير المرئيّة في هذا النقاش المسيحيّ برمّته. جعلت عدّة عوامل من الصعب عليهم التعبير عن استجابةٍ للوضع الذي يؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ على حياتهم. لقد كانوا مجتمع أقليّة. صحيحٌ أنّهم برزوا في قيادة المجتمع الفلسطينيّ، بسبب فرصهم الأكبر في التعليم الغربيّ مقارنةً بنظرائهم المسلمين. لكنّهم كانوا أكثر عرضةً للهجرة تحت الضغط، وبالتالي تضاءلت أعدادهم إلى حوالي ٣٪ من الفلسطينيّين في إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة. كما تنقسم كنائسهم بين جميع الانقسامات التاريخيّة للمسيحيّة: اللاتينيّة، والأرثوذكسيّة، والأرمنيّة، والسريانيّة، والأقباط، والملكيّة […]
أحد اللاهوتيّين الفلسطينيّين الذي حاول توضيح معضلات التفسير الكتابيّ التي يواجهها المسيحيّ الفلسطينيّ في إسرائيل هو القسّ نعيم عتيق من الكنيسة الأنغليكانيّة. وجد العديد من المسيحيّين الفلسطينيّين والعرب أنّه من المستحيل تقريبًا استخدام الكتاب المقدّس العبريّ كجزءٍ من عبادتهم. مصطلح «إسرائيل»، الذي يتردّد كثيرًا هناك، والذي فهمه المسيحيّون تاريخيًّا على أنّه يعني شعبًا متديِّنًا لوعد الله، قد استمرّ في الكنيسة، لكنّه أصبح مصطلحًا سلبيًّا بشكلٍ مؤلم. أصبح المصطلح الآن يعني دولة إسرائيل. يتردّد هذا الاسم الآن مع المطالبات العسكريّة والإقليميّة للدولة الحديثة، التي رسَّخت نفسها على حساب الإقامة الفلسطينيّة في الأرض.
كما أنّ الصور الدينيّة المأخوذة من سفر الخروج لها دلالاتٌ سلبيّةٌ بالنسبة للمسيحيّين الشرقيّين. بالنسبة للمسيحيّ العربيّ في بيت لحم أو القدس أو الناصرة، فإنّ الرسالة القائلة بأنّ الله قد اختار إسرائيل، وقادهم من العبوديّة في مصر، وأدارهم عبر سيناء وأمر بغزو أرض كنعان، أصبحت الآن مبرِّرًا دينيًّا ملموسًا لاحتلال الإسرائيليّين المعاصرين للأرض وسَلْب الفلسطينيّين. علاوةً على ذلك، يتجوّل الصهاينة المتديّنون اليهود في الضفّة الغربيّة مستخدمين هذه النصوص التوراتيّة بهذه الطريقة بالضبط.
تسبَّب قيام دولة إسرائيل، وتاريخها في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة، وطرد الشعب الفلسطينيّ أو قمعه، بأزمة إيمانٍ للمسيحيّين الفلسطينيّين والعرب. ردّ الكثيرون على هذا التناقض برفضهم استخدام الكتاب المقدّس العبريّ على الإطلاق في عبادتهم أو عظاتهم. ومع ذلك، بما أنّ لغة الكتاب المقدّس العبريّ متشابكةٌ للغاية مع اللاهوت والعبادة المسيحيّة وهي خلفيّة العهد الجديد، فإنّ هذا لا يحلّ المشكلة. يشارك القسّ نعيم عتيق في تطوير التأويل الكتابيّ، لاهوت تحريرٍ فلسطينيّ يعالج هذه المعضلة. في هذا اللاهوت، يرغب عتيق في التحدُّث إلى ثلاثة جماهير: المسيحيّون الفلسطينيّون أنفسهم، والمجتمع المسيحيّ العالميّ، وأخيرًا المجتمع اليهوديّ.
بالنسبة للمسيحيّين الفلسطينيّين، فإنّ السؤال الذي يطرحه استخدام الصهيونيّة للكتاب المقدّس ليس هو وجود الله بل طبيعة الله. يفترض المسيحيّون الفلسطينيّون أنّ الله موجود. السؤال المقلق هو «أيّ نوعٍ من الإله موجود؟» هل الله إله حربٍ وانتقام، إلهٌ قَبَليٌّ يختار شعبًا واحدًا، اليهود، على حساب شعبٍ آخر، الفلسطينيّين؟ عتيق واضحٌ أنّ الإله الحقيقيّ هو إله العدل والحقّ والسلام لجميع الشعوب، إلهٌ يدعو جميع الشعوب إلى علاقات عدلٍ وسلامٍ مع بعضها البعض. يسعى تفسيره الكتابيّ إلى إثبات وجهة النظر هذه على أنّه الإله الكتابيّ الحقيقيّ. هذا يعني توفير معايير للتمييز بين مقاطع الكتاب المقدّس التي تصوِّر الله كإلهٍ قَبَليّ، وينحاز لليهود ضدّ الآخرين، وتلك المقاطع من الكتاب المقدّس العبريّ التي تشير إلى أنّه إلهٌ عالميّ.
الأب جورج خضر، والأب جان كوربون، والقسّ سمير قفعيتي، والسيّد ألبرت لحّام، والسيّد جابرئيل حبيب.

+ مقالات