سادسًا: التحدّي السياسي للوجود المسيحي:

نحن كشعب فلسطيني نرفض أيّة إملاءات استعمارية تهدف إلى دفن القضية الفلسطينيّة، وهذا هو عنوان نضالنا المسيحي الراسخ في إيماننا وقلوبنا. فقد استخدمت الفصائل الفلسطينيّة كافة أشكال النضال لمقاومة الاحتلال منذ بداية المشروع الصهيوني، إلّا أنّ العقدة الفلسطينية تحمل في طياتها إشكاليات وتناقضات كبيرة على الصعيدين المحلي والدولي وبين الأطراف المتناحرة وحلفائهم.

على صعيد الصراع المباشر:

 إنّ الحركة الصهيونية التي تدعي أحقيتها في أرض فلسطين تنقسم الى اتجاهين:

الاتجاه الأول: يعتبر أرض إسرائيل هي فقط على الحدود التي تم ترسميها في خط الهدنة بعد نكبة عام 1948 ولا تشمل الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.

الاتجاه الثاني: يحلم بإسرائيل الكبرى التي تمتد الى الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 ويقوم بفرض سياسة الأمر الواقع من خلال القضم التدريجي للأراضي الفلسطينيّة، وحركات التحرر الفلسطينية تؤكّد على أحقيتها في فلسطين حيث بدأت بالكفاح لتحرير كامل التراب الفلسطيني، لكن عام 1988 بدأت منظمة التحرير بمراجعة فكرة حل الدولتين الذي كرسته اتفاقية أوسلو،  لكن التحدّي الأكبر يكمن في التناقض في الرؤية العالمية لحل القضية الفلسطينيّة، فالطرف الأمريكي برئاسة ترامب، يرفض الإقرار بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ويعتبرها أراضي متنازع عليها، وقد توّج رؤيته بمباركته للقدس كعاصمة لإسرائيل وبضم الجولان وإيقاف الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين UNRWA ، أمّا الدول الأوروبيّة والعربيّة، فهي تؤمن بالشرعيّة الدوليّة، وبحتميّة قيام دولة فلسطينية على الأرض المحتلة عام 1967 على أن تكون القدس عاصمة مشتركة للدولتين، وتدعو إلى إيجاد حل سياسي لعودة اللاجئين، وإيقاف المستوطنات.

في ظل هذه التناقضات واختلال موازين القوى، لا بدّ من طرح بعض التساؤلات:

  1. هل توجد نيّة حقيقيّة لتحقيق السلام العادل ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟

  2. هل يستطيع الشعب الفلسطيني أن يتوحّد بعد انقسام عام 2007؟

  3. كيف تتعامل السلطة الوطنيّة مع سياسة يمينيّة احتلاليّة تتنكر لكافة الحقوق الفلسطينية؟

  4. ما هو دور الدول العربيّة الإسلاميّة؟

  5. ما هو دور الكنيسة المسيحيّة محليًّا وعالميًّا ومسكونيًّا؟

بالنسبة للدور الكنسي فهو يتفرع الى اتجاهين:

الأوّل: يرى أنّ الكنيسة يجب ألا تتدخل بالسياسة. وليس من شأنها رفع صوتها عاليًا أمام هذه التحديات.

الثاني: أنّ الكنيسة جزء لا يتجزّأ من الشعب، فهي تتألم مع شعبها والقاعدة تحتاج إلى صوت نبوي واضح، لذلك يتوجّب عليها رفع صوتها النبوي ضد الظلم والاحتلال وانتهاك حقوق الإنسان.

لا بدّ من التوضيح أنّ الكنيسة لا تسعى للتدخل في السياسة، وليس الهدف هو تسييس الكنيسة، إنما هي صوت الحق والعدالة والسلام. لأنه كلما رفعت الكنيسة صوتها كلما ترسّخ لدى رعاياها الإحساس بالوجود والشهادة على الأرض المقدسة. ونحن كمسيحيّين وكمُكوِّن أساسي من الشعب الفلسطيني نرفض مقولة (إنّ المسيحيين بين المطرقة والسنديان) لأننا أيضا عانينا من ويلات الاحتلال ومورست بحقنا نفس الانتهاكات التي عانى منها كل أبناء الشعب الفلسطيني.

إنّ هذه المعاناة، وانعدام أفق السلام وتدهوّر الوضع الاقتصادي، وازدياد التطرّف الديني والسياسي يدفع المسيحي على التفكير بالهجرة بحثًا عن الأمن والأمان، ولكننا نقول: إننا اليوم بحاجة إلى إحياء معنى الصمود على أرض الآباء والأجداد. إذن، ما هو الصمود المسيحي الفلسطيني؟

وكيف نصمد ولا نترك بلادنا؟ وما هو قصد الله من وجودنا على هذه الأرض؟

هذا هو التحدّي الأكبر.

سابعاً: تحدّي التطرّف الديني:

إنّ استفحال ظاهرة التطرّف الديني، والتنافس على هذا التطرف من قبل جماعات من الديانات الثلاث بهدف الوصول الى مجتمع أحادي الدين، والفكر والأيديولوجيّة، وفرض الدين على الدولة واغتيال التعدديّة، وتغيير ملامح المجتمع بإقصاء الآخر وتكفيره، يحمل في طياتِه منهجيّات مشتركة ضمن قناعات تجمع فيما بينهم بغض النظر عن العقيدة التي يتمسّكون بها، ويتفق هؤلاء بكونهم يؤمنون:

  1. حرفيّة الكتب المقدسة.

  2. الطاعة العمياء.

  3. وضع سيناريوهات للزمن الأخروي.

  4. الوقت الحالي هو زمن إلهي مؤاتٍ لتحقيق الخطط الإلهيّة بواسطتهم البشرية.

  5. بحتميّة نشوب حرب دينيّة.

وهنا يأتي دور العربي الفلسطيني المسيحي ليرفع صوته بالمبادئ التالية:

1: إنّ التطرّف الدّيني هو عدو الدين القويم، ويُستغل التطرف الديني من أجل تحقيق مصالح سياسيّة وماديّة ضيقة. إن التطرّف الديني هو من قاد المسيح إلى الصليب. وهو ليس نهجًا عربيًّا فلسطينيًّا مسيحيًّا، إنما المسيحي المؤمن يدعو إلى الانفتاح وقبول الآخر والعيش المشترك.

2: إنّ الله خلقنا متساوين ولكن متنوعين. ذكرًا وانثى خلقنا الله. أجناسًا وأعراقًا. أمَمًا وشعوبا. أديان مختلفة. فإذا الله هو الله الذي خلق التنوع، فمن هو الإنسان حتى يتطرف، ويتقوقع على ذاته ويفرض رأيه ويقصي الآخر ويدّعي معرفة إرادة الله ويدين الآخر ويكفره.

إن تحدّي التعصب الديني هو تحد حقيقي اليوم في فلسطين أو إسرائيل؛ لأن التعصب يستقطب المتشددين الذين لا تعنيهم المصلحة العامة، ونحن كمسيحيّين نتمسك بدعوتنا إلى الانفتاح وبقبولنا للآخر وبشهادتنا وبرؤية المسيح في الآخر الذي يختلف عنا دينًا وعقيده ومذهبًا وايديولوجية وفكرًا. يقولون إذا تعصّبوا فنتعصب أكثر منهم. فأقول كلما تعصّبوا وكفروا وأقصوا كلما دعانا المسيح إلى الانفتاح وقبول الآخر ورؤية وجه المسيح حتى في المتعصب؛ لأنّ قوة الفلسطيني المسيحي هي باتباع طريق المسيح وقبول الآخر.

ثامناً: تحدّي المسيحيّة الصهيونيّة:

بعد حرب حزيران عام 1967 واحتلال القدس زار منزلنا قسيس أمريكي من كنيسة الاتّحاد في غرب القدسّ. وقال لنا: إنّ احتلال القدس هو أمر كتابي (أي مكتوب عنه في الكتاب المقدس) وهذه هي إرادة الله. وإذا ما قرأنا سفر دانيال الأصحاح السابع سنجد أربعة قرون، فالقرن الصغير يدل على اسرائيل الذي تغلّب على القرون الثلاثة الكبرى التي هي الأردن ومصر وسوريا. وبما أنني كنت شابًا مؤمنًا بالمسيح مخلصا، وأريد دراسة اللاهوت، فقد صدقت هذا القسيس الأمريكي وبدأت أعاني من صراع داخلي وأتساءل، أنا كفلسطيني كيف يريد الله أن يحتلني؟ هل من الممكن أن يكون الكتاب المقدس عدوًّا لي؟ عكفت على قراءة الكتاب المقدس أبحث عن الحقيقة في ثناياه. وعندما ذهبت إلى دراسة اللاهوت في فنلندا، اخترت العهد القديم موضوعًا رئيسيًّا حتى أفهم قصد الله وأتأكد من مقولة هذا القسيس الاتحادي.

عكفت على البحث عن إجابات لتساؤلاتي: هل الله مع الإنسان الفلسطيني أم ضده؟ وقد تعمدت التركيز على هذا السؤال لأنه يعكس أزمة جديّة حقيقيّة يعيشها كثير من المسيحيين، ولا سيما أولئك الذين يقرأون الكتاب المقدس بحرفيّة مطلقة، ويعتقدون أن بعض النبوءات لم تتم في الكتاب المقدس. وهذا يتناقض مع تعاليم الكنيسة ومفهومنا الإنجيلي القويم بأنّ النبوءات قد تمت بمجيء المسيح مخلّصًا. ولا توجد نبوءات لم تتم بعد؛ لأن تتمة النبوءات هي في المسيح فقط. وهذا الأمر دفع الفلسطينيين المسيحيّين خاصة، والعرب المسيحيّين عامة أن يتساءلوا عن إرادة الله؟ وهل الله متحيّز مع شعب ضد شعب؟ وهل الله تاجر أراضي يوزّع الأرض لمن يشاء ويحرمها لمن لا يشاء؟  ومن هنا بادر اللاهوتيون الفلسطينيون إلى وضع وثيقة أساسية عام 1983 في مركز اللقاء للدراسات الدينيّة من أجل البحث عن مفهوم تحرري جديد لقراءة الكتاب المقدس وقد تطورت هذه المبادرة لتؤسس اللاهوت الفلسطيني الذي يحمل مسميات عديدة، لكن بمضامين موحّدة تقدّم مفهوما صحيحا لتفسير الكتاب المقدس ينسجم مع مفاهيمنا المسيحية الفلسطينية، فيطلق عليه مركز اللقاء الّلاهوت المحلي، ومركز السبيل باللاهوت التحرري، ودار الندوة باللاهوت السياقي ،لكن من منطلق واحد لأنّ المسيح عاش على أرضنا، واستنشق هواءنا، وأصبح واحدًا منا، ولا يريد احتلالنا، وهكذا ولدت وثيقة كايروس.

يترتّب على قادة لاهوت التحرر الفلسطيني معالجة العديد من القضايا وهي:

أوّلا: التأكيد على كوننا جزءًا من هذا الشعب الرازح تحت نير الاحتلال، ودحض التفسير المضلل للكتاب المقدس بأنّ الاحتلال هو إرادة الله، إنّما هو خطيئة ضد الله.

ثانيًا: معالجة رؤية المسيحيّين الغربيّين التي تعتبر أنّ إنشاء اسرائيل هو وعد إلهي لأبناء إسرائيل.

ثالثًا: معالجة ظاهرة مشتركة تجمع بعض المسيحيّين الأصوليين مع بعض اليهود الأصوليّين في الرأي حول إعادة توطين اليهود في فلسطين كمرحلة تمهيديّة لمجيء مملكة مسيا في آخر الأزمنة(لليهود) أو المجيء الثاني للمسيحيّين. ومثل هؤلاء المؤيدين للأصوليّة التوراتيّة يفسرون الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم على أنّها تقدم الضمان للإسرائيليين. بإعطاء الأرض لهم من الله دون قيد أو شرط ودون الأخذ بعين الاعتبار تواجد شعب آخر عليها ودون فهم رسالة العهد القديم ونبوءاته.

يتوجّب علينا كقادة مسيحيّين تعليم رعايانا كيفية قراءة الكتاب المقدس حتى لا يقعوا في فخ التطرف. لذلك، فإن لاهوت التحرير المحلي السياقي يهدف إلى تقوية الروحانيات في وجدان شعبنا المسيحي ليعرف أن الله محبة، ويحبه كما يحب الآخرين ويريد حريته وحقوقه. فاللاهوت المحلي هو تحرّري؛ لأنه يعيد المسيح إلى قلب الانسان الفلسطيني المسيحي.

رابعا: ظاهرة التململ لدى بعض الأوساط الغربيّة عند ثبوت أدلّة تدين ممارسات الاحتلال.

خامسا: فضح جوهر الفكر المسيحي المتصهين الذي يدعو إلى بناء الهيكل الثالث على جبل اوريا مكان الحرم الابراهيمي الشريف من أجل الإسراع في مجيء المسيح الثاني، ونشوب معركة جوج ومجوج وبأنّ المسيح سينتقم من ثلثي مَن لم يؤمن به، لكننا كمسيحيين فلسطينيين ندين بشدة هذا التوجه ونرفض أي تغيير، او تلاعب في الأماكن المقدسة؛ لأنّ هذه الأفكار والسيناريوهات تتنافى تماما مع روح الإنجيل، وتتنافى أيضا حتى مع اللاهوت اليهودي. وهؤلاء يروجون لأفكار مضللة، وهم مجرد هراطقة. ونحن اليوم كفلسطينيين مسيحيّين نتحدى هذا اللاهوت المضلل؛ لأنه يتناقض مع تعاليم الكتاب المقدس ويشكل اعتداء صارخا على المسيحيّة واليهوديّة والإسلام وبالتالي هو انتهاك واضح لحقوق الانسان.

إذن، يتوجب علينا إبراز رؤية صحيحة ونبذ الأصوليّة المحرفة؛ لأنّنا ندرك تماما بأن الله في الكتاب المقدس يريد حرية كل انسان بما في ذلك الإنسان الفلسطيني.

تاسعاً: تحدّي هجرة الفلسطينيّين المسيحيّين:

لا بد من التذكير أن نكبة عام 1948 أدّت إلى تهجير 50000 مسيحي فلسطيني من أصل 715000 لاجئ فلسطيني. وقد تُقرأ الاحصائيات بطرق مختلفة؛ لأنّ وسائل الإحصاء لم تكن دقيقة قبل سبعين عامًا كما هي اليوم. ولكننا نستطيع القول إنّ نسبة المسيحيّين كانت تقارب 15- 20%. أما الآن فقد تراجعت هذه النسب. بالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يهاجر الفلسطينيون المسيحيون؟ يجمع المحلّلون أن الهجرة بدأت في أوائل القرن الماضي لمسيحيّين فلسطينيّين من بيت لحم ورام الله إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية لعوامل اقتصاديّة. فالهجرة كانت فكرة محورية في أذهان الكثير من المسيحيّين. لكن، البعض يقول: إنّ الفلسطينيين المسلمين أيضًا يهاجرون سعيًا إلى عيش كريم وإلى تحسين وضعهم الاقتصادي. ونقول نعم هذا صحيح ولكن عندما يهاجر عشرة فلسطينيين مسيحيّين يرجع اثنان منهم إلى فلسطين، ويبقى ثمانية منهم في المهجر. وإذا ما هاجر عشرة فلسطينيين مسلمين، يرجع ثمانية منهم إلى فلسطين، ويبقى اثنان منهم في المهجر.

أما الأسباب الحقيقية لهجرة الفلسطينيين المسيحيّين فتتلخص في أربع نقاط:

  1. انعدام أي أفق سياسي لحل عادل للقضيّة الفلسطينية.

  2. الإجراءات الاحتلالية التي تحط من كرامة البشر من خلال الحواجز، وتهويد القدس وإغلاق المناطق الإسرائيلية، وحرمان الأزواج الشابة من لم الشمل، وتضييق سبل العيش على كافة المستويات.

  3. ارتفاع نسبة البطالة بين الشبيبة والتي تصل في أوساط الشبيبة المتعلمة ممن هم دون سن الثلاثين إلى 33% وتصل في قطاع غزة الى 65%، وهذه نسب مرعبة تؤشّر إلى ضيق الحال وصعوبة العيش.

  4. استفحال ظاهرة التطرف الديني في فلسطين وإسرائيل بالإضافة الى التصريحات المتطرفة التي تهدّد سلامة المسيحيّين.

هذه العوامل مجتمعة توجه الاتهام إلى الاحتلال بالدرجة الأولى، والى الاقتصاد المتردّي بالدرجة الثانية. وهذا بدوره يؤكّد أنّ مستقبل المسيحي الفلسطيني على هذه الأرض يكمن في الانعتاق من الاحتلال، وبدفع عجلة التنمية وتوفير فرص عمل في ظل سلام عادل وشامل على المستويين الوطني والإقليمي. هنا، لا يجوز انكار أهميّة الوجود المسيحي في فلسطين حيث نشط الكثير من الكتاب العرب وحتى الإسرائيليّون بالتساؤل عن مستقبل فلسطين في ظل غياب الوجود المسيحي، كذلك بالنسبة لبعض القادة العرب الذين يطالبون الشبيبة المسيحيّة بالتمسك بأرض الوطن وتحدّي كافة العقبات، ويعود ذلك للأسباب التالية:

  أولاً: إنّ الوجود المسيحي في فلسطين يشكّل قوة توازن. وغياب عامل التوازن يؤدّي إلى تحويل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من صراع سياسي إلى صراع ديني بين الإسلام واليهوديّة. وهذ يضعف موقفنا السياسي والاستراتيجي.

ثانيًا: إنّ الوجود المسيحي هو ضمان لتطوير مجتمعٍ مدنيٍّ معاصر يحترم حقوق الإنسان، وعدالة النوع الاجتماعي، وحريّة الدين والمعتقد والضمير وحريّة التعبير. وهذا ما يقوم به الفلسطينيون المسيحيون في مؤسساتهم التربويّة والاجتماعيّة، والصحيّة، وحتى في وجودهم على هذه الأرض.

    بناء عليه، يتوجّب على الكنيسة والمجتمع حماية الوجود المسيحي؛ لان وجودنا هو شهادة حيّة. نعم، أعلم كل العلم، أنّ البوصلة الجيوسياسيّة، والوضع الراهن محليًّا وإقليميًّا، ودوليًّا لا يقدم مؤشرات إيجابية. لكن، لا بد من الصمود على أرض الميلاد وقدس القيامة وناصرة البشارة وجبل التطويبات ويافا التبشير المنفتح.

ماذا نفعل لنصمد على هذه الأرض؟

أولاً: يجب تطوير رؤية فلسطينيّة مسيحيّة شاملة تلبية لدعوة المسيح لنكون شهودا له على الأرض المقدسة في القرن الحادي والعشرين.

ثانياً: دعم ومساندة الفلسطينيين المسجونين الذين يفتقرون إلى سبل العيش والعمل على توفير سكن ومصدر دخل لتعزيز صمودهم على أرض القيامة لأن إله العدالة يغيّر ولا يتغير.

عاشراً: تحدي عدالة النوع الاجتماعي(الجندرة)

بالرغم من كافة التحديات التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني يوجد تحد آخر ينبع من عمق الموروث الثقافي المتمثل بالسلطة الأبوية في البيت والكنيسة والمجتمع.  هذا المجتمع الذكوري وجد لنفسه مبررات وأسانيد غير واقعيّة حيث يستشهد الكثير من أنصار التفوق الذكوري بتكوين الأصحاح الثاني، بأن الله أخذ ضلعًا من آدم وأحضرها إلى آدم الذي قال:” هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي. هذه تُدعى امرأة لأنها من المرء أخذت” (تكوين2: 23) وأنّ الله خلقها لتكون معينا للرجل (تكوين2: 20). ومن هنا تطوّرت فكرة السلطة والتسلط للرجل الذي عاش متمتعًا بامتيازات عديدة حرمت منها المرأة.. وهؤلاء يقتبسون من الكتاب المقدس ما يحلو لهم دون الأخذ بعين الاعتبار السياق العام للمحتوى. وللتوضيح، نجد في تكوين الأصحاح الأول: “فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض…..” (تكوين1: 27- 28)

توضّح هذه الآية أنّ الله خلق البشر متساويين دون تمييز بين الرجل والمرأة. وانّ الله منذ قصة الخليقة خلقنا متنوعين، ومتعاونين من أجل التعايش بمحبة ووئام لبناء المجتمع الصالح. بالإضافة إلى ذلك، المسيح مات على الصليب وفدى بدمه الكريم الإنسان رجلاً وامرأة دون تمييز، فداءً حقيقيًّا وخلّصهم ليس فقط من خطيئتهم إنما من الظلم المفروض على المرأة. لذلك يكتب بولس الرسول لأهل غلاطية:” لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حرّ. ليس ذكر أو أنثى لأنكم جميعًا واحدًا في المسيح يسوع.” (غلاطية 3: 27- 28). وهذا يعني أن المسيح نسف الدور الأبوي الظالم، ودعا إلى المساواة والتكامل بين الرجل والمرأة مع الحفاظ على خصوصية وتميّز كل طرف، مع الحفاظ على حق المرأة في القيادة في المجتمع والكنيسة. فالمرأة لا تستجدي حقوقها من الرجل إنما هي تمارس حقها على المجتمع والكنيسة، ويجب أن تحظى بكافة الحقوق الاجتماعيّة والسياسيّة والقانونيّة؛ لأنّ الله منحها هذا الحق وحتى لو تنكّر المجتمع لهذه الحقوق فإن صوت الله في كتابه المقدس لن يسكت لأننا مدعوون ككنيسة أن نكون عادلين مانحين كل ذي حق حقه الإلهي.

دور الكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة:

تعاني كثيرٌ من النساء من العنف الأسري ومن التحقير والنظرة الدونيّة، وهذا يتناقض تماما مع التعاليم المسيحيّة، فالزواج يجب أن يتم على أساس الاحترام المتبادل والمحبة والرحمة والمودة، وعدم احترام هذه القيم يشكل تحديًا صارخًا للحق الإلهي.

إنّ عدم المساواة بين الرجل والمرأة ينتهك حقوق المرأة في كافة جوانب حياتها، وهذا ما دفع الكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة في الأردن والأراضي المقدسة إلى استحداث قانون أحوال شخصيّة يحقق العدالة الاجتماعيّة ويحمي حقوق المرأة داخل الأسرة في المجالات الحيويّة التي حرمها منها قانون الأحوال الشخصية المعمول به في فلسطين والشرق الأوسط، والذي لا ينسجم مع اللاهوت المسيحي ولا يحقق عدالة النوع الاجتماعي.

بادرت لجنة المرأة في كنيستنا بقيادة السيدة سعاد يونان مع نساء القساوسة بالطلب من المجمع الكنسي بتغيير جميع القوانين المجحفة بحق المرأة. وقد تم تشكيل لجنة لدراسة الجوانب اللاهوتيّة والقانونية، الى أن قام المجمع الكنسي بإقرار قانون المحكمة الكنسية الانجيليّة اللوثريّة التي تكفل العدالة الكاملة للنوع الاجتماعي في الزواج، بطلان الزواج أو الانفصال، الإرث والتبني. وأصبح قانون الأحوال الشخصيّة التابع للكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة في الأردن والأراضي المقدسة أول قانون كنسي في الشرق الأوسط يعطي عدالة النوع الاجتماعي حقه الكامل.

أشرت الى هذا الإنجاز لأثبت لكم أنّ الكنيسة قادرة على قيادة المجتمع، وتوجيه البوصلة باتجاه العدالة بشكل عام، وعدالة النوع الاجتماعي بشكل خاص تحت مظلة لاهوت حقيقي. فالكنيسة تتفاعل مع المجتمع للقضاء على السلوك الخاطئ وإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع. إن عدالة النوع الاجتماعي لا تتعلّق بالمرأة فقط، إنما هي مسؤولية مجتمعية وكنسيّة.

هل تملكون القدرة كأجيال ناشئة على مواجهة هذا التحدي بتفان وإخلاص؟

 خاتمة

لقد استعرضت عشرة تحديات تشكّل بمجملها تفاصيل حياتنا اليومية في الكنيسة والوطن، وحتى داخل الأسرة، والهدف هنا ليس رفاهية فكريّة، إنما أقدمها لكم من أجل تناولها بالبحث والتحليل لاستيعاب اشكالياتها، وتعقيداتها لنفهم جوهر دعوة الله لنا كمسيحيّين فلسطينيين وفي هذا الزمن بالتحديد.

إذا استطعتم بالصلاة والتأمل الإجابة على هذه التساؤلات. حينها فقط سنفهم بأن الله دعانا لنكون: أداة للسلام والعدالة وحماية حقوق الإنسان وشهودا للمسيح في حياتنا.

 هذا المقال مبنيّ على محاضرة سيادة المطران منيب يونان في كلية بيت لحم للكتاب المقدس بتاريخ 28-1-2020 ضمن مساق اللاهوت المسيحي في السياق الفلسطينيّ.

+ مقالات